كفرناحوم، بعد أن سكنها يسوع، دفق عليها الخير، الخير كلّه. أمّا أنا، فلم يتسنَّ لي أن أرى، بأمّ عينيَّ، الخير الذي كان يراه الآخرون يتدفّق. لستُ بأعمى، بل لي إعاقتي التي تمنعني من الحَراك والخروج من البيت. ما أراه، إذا كان موافقًا استعمال هذا التعبير، كنتُ أراه بأذنيَّ (متّى 9: 1- 8)!
كانت أخبار الأشفية، التي يصنعها يسوع، تصل إليَّ على سريري هدايا يوميّة. وعلمتُ أنّه، بما يعمله للناس، لا يشترط على أحد شيئًا. كلّ ما يعمله، يعمله مجّانًا من دون أن يميّز بين قريب وبعيد. كلّ الناس أقرباؤه، كلّهم كلّهم. جارنا، مثلاً، قائد المئة الوثنيّ، الذي أتى إلى يسوع وعرض له عذاب فتاه، شفاه له من دون أيّ شرط، من بعيد، بكلمة (متّى 8: 5- 13). أخباره مدهشة! كلّه مدهش! وأنا قرّرتُ أن أعرض له نفسي. ما دام يسوع مجّانيًّا، فثقتي كبيرة بأنّه لن يبخل عليَّ بكلمة منه تشفيني.
كان الذين يزوّدونني أخباره يؤمنون به وبقدرته على صنع المعجزات. أعلمتُهم بقراري. أردتهم أن يساعدوني على أن أراه. فأنا بتُّ، مثلهم، أؤمن به وبقدرته. وأتوني بخبر يقين أنّه مزمع على أن يأتي، في هذا اليوم، إلى كفرناحوم مدينتنا ومدينته (متّى 4: 13؛ قابل مع: مرقس 2: 1). ومن دون كلام كثير، غدوت أنا وسريري، على أكفّهم. وطاروا بي إليه! على الطريق، ما من أمر أثارني، أيّ أمر! على أنّني لم أخرج من بيتي منذ مدّة طويلة طويلة، لم يثرني أيّ شيء! الهواء العليل، الذي كان يقبّل وجنتيَّ بشوق ظاهر، لم أعره اهتمامي. الشمس التي داعبتني أنوارها، الناس الذين رأوني فوق الأكفّ، أشجار التين والزيتون التي كانت تصفّق لمرآي محمولاً، كلّها لم تهمّني. قلبي وفكري وجسدي، كنتُ كلّي مشدودًا إلى لقائي به. كانت بغية قلبي أن أراه، ويراني فحسب. وكلّ ما سيأتي بعده نهايته معروفة، هداياه معروفة!
عندما وصلنا إلى شاطئ بحيرة طبريّة الذي يجاور مدينتي، رأينا يسوع يهمّ بأن ينزل من السفينة التي حملته إلينا. هل كان تعبًا من سفرته؟ لم يمرّ هذا السؤال ببالي! إن كنتُ وإيّاه على موعدٍ اليوم، فما لي وللأسئلة؟! ورآنا أمامه. كان مشهدي محمولاً كافيًا، ليمدّني بكلماتٍ لم أكن أتوقّعها. قال لي توًّا: "ثقْ، يا بنيَّ، غُفرت لك خطاياك". إن قلتُ خطف لُبي برقّة مناداتي بـ"يا بنيَّ"، لا أبالغ في حرف. كانت ثقتي بأنّه، إن رآني على سريري، سيحنّ عليَّ، ويشفيني. أمّا أن يعتبرني ابنه، لحمًا من لحمه وعظمًا من عظمه، فهذه هديّة خاصّة لم أكن أنتظرها. ألم أقل إنّه مجّانيّ؟ أدرك يسوع أنّنا كلّنا نؤمن به حقًّا. قرأَنا وأفكارَنا وكلَّ ما يتحرّك فينا. وإن قال لي: "يا بنيَّ، غُفرت لك خطاياك"، فيعني أنّه لا يراني من خارج فحسب، بل يراني كلّي. فَمَنْ حملوني، لم يقدّموا إليه أجزاء منّي، أو قدّموني من خارج فحسب، بل كلّي. وأراد أن يشفيني كلّي، من خارج ومن داخل. فأنا كلّي واحد، شخص واحد. لم تشعرني كلماته بأنّه يعتبر علّتي سببها خطاياي التي قال إنّها غُفرت لي. لو اعتبر، لقال لي ذلك علنًا. لم يقل، إذًا لم يعتبر! لكنّه رأى إلى خطاياي علّةً أخرى تُضاف إلى عللي. يا لهنائي! يا لهذه الهديّة الثمينة. هديّة!، بل هديّتان، بل هدايا!
كان الناس حولنا زرافاتٍ زرافات. وكان بينهم بعض كتبة. وكلّهم سمعوا ما قاله لي. فما قاله، قاله علنًا. وفعلتْ كلماته، كما فيَّ، في كلّ مَنْ سمعوها أيضًا. أمّا مَنْ سمعوها، فلم يرتاحوا جميعهم، مثلي، إلى ما سمعتُهُ. الكتبة مثلاً. هذا كشفته كلماته العجلة التي تلت مخاطبته إيّاي. كلّنا رأيناه يلتفت نحوهم، ويخاطبهم. بدا يعرف ما كانوا يفكّرون فيه! يعرف الكلّ، من الداخل ومن الخارج! قال لهم: "لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم. ما الأيسر أن يقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم فامش؟". قال هذا، ثمّ أردف: "ولكن، لكي تعلموا أنّ ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، (قال لي): قم، احمل سريرك، واذهب إلى بيتك". وقمتُ من فوري! وأخذتُ سريري بيديَّ، كما قال لي، ومضيتُ إلى بيتي يرافقني تمجيد الذين رأوا أنّ الله أعطانا، نحن البشر، سلطانًا بيسوع أن يشفينا، ويغفر لنا خطايانا.
كنتُ أودّ أن أبقى معه أستدرّ الخير عيانًا. لكنّ أمرَهُ إيّاي بأن أحمل سريري وأذهب إلى بيتي دفعني إلى أن أودّ أمره كلمةً كلمة، حرفًا حرفًا. ليس لي أن أعمل ما يحلو لي، بل ما يحلو له أن يحلو لي!
لا أعتقد أنّه أرادني أن أرحل من أمامه، ليختلي بالكتبة الذين شكّوا فيه، ويكمل ما بدأه معهم. فكلامه معهم كان واضحًا، نهائيًّا. فكّروا بالشرّ في قلوبهم! واكتشفهم! وفضحهم! لماذا أتوا إليه إن كانوا لا يريدون أن يؤمنوا به؟ هذا لم يستوقفني. استوقفتني محبّته التي لم تمنعه من أن يردّ حتّى على الأشرار. إنّه لا يبخل على أحد بشيء! لكنّهم لم يفهموا كرمه. كشف لهم أنّه "فاحص القلوب والكلى". ولم يرتدعوا! يا لغبائهم! ما لي ولهم! أساسًا، عادوا لا يهمّونني. فضحوا أنفسهم. عاد، وحده، يهمّني. ومعه الذين مجّدوه، والذين يودّون أن يمجّدوه. فعلاً، يستحقّ التمجيد. لقد شفاني كلّي مجّانًا!
كلّما راجعتُ وقائع لقائي به، لا أفكّر في أنّني لم أخاطبه علنًا. فأنا، أمامه، لم أكن صامتًا. كنتُ، ظاهريًّا، صامتًا. لكنّ قلبي كان مشغوفًا به، ومأخوذًا بمخاطبته وشكره وتمجيده. لقد دخلني كلّي. وبنى له مكانًا رحبًا في داخلي. إن كان شفى جسدي ليستعيد انطلاقه، فشفى قلبي أيضًا، لتكون له انطلاقاته. ليس عبثًا أنّه غفر لي خطاياي قَبْلَ أن يقيمني. هداني السبيل إلى أن أنطلق، دائمًا، كلّي إليه.