(يُعيّد لمولد المعمدان في 24 حزيران)
لمّا أطلق اسم "يوحنّا" على الطفل الجديد، انتشر خبره في جبال اليهوديّة كلّها (لوقا 1: 57- 65). وكان كلّ مَنْ يسمع بذلك يحفظه في قلبه قائلاً: "ما عسى أن يكون هذا الطفل؟" (الآية الـ 66).
مَنْ قرأ هذا الخبر في موقعه، يعرف أنّ هذا السؤال عن الطفل ترك لوقا الإنجيليّ جوابه في عهدة الروح القدس (الآية الـ67). فهذا الطفل لا يشبه أيّ طفل آخر. هذا، كما تنبّأ زكريّا أبوه: "ستدعى نبيّ العليّ / لأنّك تسير أمام الربّ لتعدّ طرقه / وتعلّم شعبه الخلاص بغفران الخطايا" (أنظر: 1: 76- 79).
يبيّن هذا الجواب النبويّ أنّ هذا الطفل رسالة. هذا استشراف للآتي يؤكّد أنّ الله قائم في هذا الخيار. أمّا السؤال، فهو: هذا الطفل رسالة من أجل مَنْ؟ قال زكريّا: "تعلّم شعبه"، أي شعب العليّ الذي دُعي يوحنّا نبيّه. وهذا القول يحتّم علينا ألاّ نحصر رسالة يوحنّا بالبيئة التي سيكرز فيها (أي البيئة اليهوديّة)، بل أن ننظر إليها انطلاقًا من الله، أي أن نراها رسالةً شاملةً تبتغي خلاص العالم. هل نُسقط على كلمات زكريّا ما لا تقوله؟ لا! فالنبيّ أوضحَ أنّ رسالة ابنه رسالة تعليميّة عن "الخلاص بغفران الخطايا". لم يقل زكريّا: "جميع الناس قد خطئوا، فحرموا مجد الله" (أنظر: رومية 3: 23). ولكنّنا يجب أن نستعدّ لسماعها هي عينها. هل أنا خاطئ؟ يساعدنا زكريّا والد السابق على أن يطرح كلّ منّا هذا السؤال على نفسه: هل أنا خاطئ؟ أي: هل أرى، في مسيح الله، خلاصي الشخصيّ؟ ويجب، تاليًا، أن نرى، في "تعلّم شعبه الخلاص"، فرقًا شاسعًا بين يوحنّا ومَنْ سيعطي الخلاص، أي الربّ يسوع نفسه.
هذا كلّه يجد معانيه في كلمات يوحنّا التي نطقها في أوّل ظهور له، ولا سيّما في وصفه مَنْ تحلّقوا حوله بـ"أولاد الأفاعي"، وقوله لهم وجهًا بوجه: "لا تعلّلوا النفس قائلين: "إنّ أبانا هو إبراهيم". فإنّي أقول لكم إنّ الله قادر على أن يُخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم" (لوقا 3: 7 و8). فما عسى أن يكون هذا الطفل؟، يعود الجواب عنه في هذه الكلمات التي قلبت كلّ المقاييس البشريّة. شيء عجيب، فعلاً! شيء عجيب أن يزعزع رجل، لا يملك سوى صوت، أحلامًا عاش عليها قومه دهورًا! أنتم تعتقدون أنّ أباكم هو إبراهيم، قال يوحنّا، فمن أين لكم أن تضمنوا أنّه سيعترف بكم أولادًا له؟ ليست القضيّة أن تقولوا أنتم مَنْ أنتم، بل أن يقول هو. وهذا كلّه يؤكّد أنّ مَنْ خاطبهم يوحنّا أوّلاً خلع عنهم أنّهم أولاد إبراهيم، أي شعب مختار. ليس من أحد مختارًا، قال يوحنّا، اللَّهمّ إلاّ مَنْ يختاره الآتي. انتهت التصوّرات. زالت المعايير التي استوهمتموها. "ها هي ذي الفأس على أصول الشجر " (لوقا 3: 9). إن كنتم تريدون أن تكونوا شيئًا، فعليكم أن تغيّروا عقولكم وقلوبكم، وتنفتحوا على مَنْ هو، وحده، خلاصكم.
هل كان ليوحنّا أن يقول ما قاله لو لم يواكبه الله منذ البدء؟ في الواقع، لا يمكننا أن نقرأ أنّ "كلّ مَنْ يسمع بذلك كان يحفظه في قلبه"، التي قلنا إنّها استشراف للآتي، من دون أن نرى الله نفسه يحوط بمجريات هذا الحدث الجديد. فالله، هنا، قائم في كلّ حركة وهنّة وقول وصمت وعجب. وهذا يشجّعنا على أن نعتبر أنّ الله لم يعدّ طريقه بإرسال يوحنّا فحسب، بل أعدّ الكون لاستقباله. أن تقول لقوم يعتقدون أنّهم أرفع شأنًا من الكون كلّه: "يا أولاد الإفاعي"، ويصمتون كما لو أنّهم نسوا كلماتهم، ويقبلوا إليك طائعين، أمر لا يمكن أن يعني سوى أنّ الربّ هو، كلّيًّا، هنا. هذه رؤية العهد الجديد: الله قائم على لسان النبوّة وأذني مَنْ يسمعها. ليس الناس يقولون، بقدرتهم الذتيّة، قضيّة الله، بل الله نفسه.
هل نهمّش دور يوحنّا؟ بل نوافق الله. أمّا إذا نظرنا إلى جَمال يوحنّا، فنرى أنّه لم يحد عن رسالته قيد أنملة. كان فيها. كان تحتها. كان إيّاها. كان دائمًا. ليس كلّ الناس يوحنّا. بعض الناس، إن انتبهوا إلى أنّ الله أعدّهم لعمل ما (وهذا مصيرنا جميعًا)، تراهم يرفّعون أنفسهم فوق ما أُعدّوا من أجله. كيف تكون أنت الرسالة؟ يجيب يوحنّا ببلاغة: إن كان الله هو الكلّ عندك. إن أردنا أن نقول وصفًا واحدًا في يوحنّا، لقلنا، من دون انتظار: بقي طفلاً. كلّ الحياة الجديدة، الحياة في المسيح، أن نبقى أطفالاً. ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ الجواب: لم يترك طفولته. فقط، الأطفال بالروح يمكنهم أن يعدّوا طريق الربّ، ويعلّموا شعبه الخلاص بغفران خطاياهم. كيف؟ بقبولهم الله أمّهم وأباهم. أين بدا لنا يوحنّا أنّ الله كان له أمًّا وأبًا؟ لنعد قليلاً إلى مجريات الخبر. بعد أن أنهى زكريّا نشيده، قال لوقا كاتب الخبر: "وكان الطفل يترعرع وتشتدّ روحه. وأقام في البراري إلى يوم ظهور أمره لإسرائيل" (1: 80). هل يمكننا أن نتلمّس جوابًا عن سؤالنا في هذه الكلمات؟ أجل. فهذه تعني أنّ الله كان وراء هذا الطفل في كلّ شيء. كيف يتربّى إنسان في البراري؟ بأن يكون الله، وحده، طعامه وشرابه وثيابه وفيئه وستره. يوحنّا، وفق ما كُتب عنه، لم يتلقَّ شيئًا من إنسان. ويجب أن نفهم أنّ هذا يعني أنّه بقي طفلاً، طفل الله، بقي الله أمّه وأباه.
قَبْلَ أن يكبر الطفل انتشر خبره في جبال اليهوديّة كلّها. هذا، في آن، تمهيد وإثارة. أمّا الباقي، فأن نعرف نحن أنّنا إنّما ولدنا، لنثير العالم. ربّما نعتقد أنّنا أبناء إبراهيم (أو أولاد الله). ويجب أن نعرف أنّ مَنْ يلدهم الله كلّ يوم، مثل يوحنّا، هم فقط أولاده. يوم ظهور يوحنّا، خرج الناس إليه إلى البرّيّة. ما زال يوحنّا ينادي فينا: أنِ اخرجوا إلى البرّيّة. هذا دربنا الوحيد، لنلاقي يسوع، ونسترجع أنّنا أطفاله!
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )