الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

ما بكِ أنطاكية؟

ما بكِ، أنطاكية؟ قولي. هل ثمّة جميلة مثلك عندما تتكلّمين؟ هل تقولين في سرّك: هيهاتِ أيّام زمان؟ هل تتقادم الأيّام عليك أيضًا؟ أنّى لك هذا، وأنت ما زلتِ أطرى من الفجر؟

قولي عَمَّنْ تسألين؟ هل عن إرث الكبار الذين تعبوا في نشر قصّة حبّ كتبها الله بدمه؟ هل عن الوعّاظ الذين كان صوتهم يزلزل أرضك؟ هل عيناك ما زالتا ملتصقتين ببرِّ البراري التي عجّت بِمَنْ أضاعوا وجوههم في ربوع ملكوتٍ يُشتهى؟ هل قلبك هناك في مَنْ لم يَقبلوا أن تكون لهم مدينة باقية هنا؟ ومَنْ خطفهم نور التجلّي؟ وأسكرهم التسبيح؟ والمعترفين الذين شهدوا للحقّ في ألسنٍ وأيادٍ بُترت؟ والعائلات التي كانت تحيا في سلام؟ والذين افتدوا المسكين الذي كان "يُباع بنعلَيْن"؟ وهل، فوقهم، الذين رووا الأرض بالدم حبًّا؟ حقّكِ أن تسألي، وأن تتفاخري، يا عروسًا أبديّة! فأنت حرّة من كلّ لوم!

أنطاكية، ما بكِ؟ هل تشغلك خطايانا أيضًا؟ خطايانا كثيرة! لا، لا تعدّديها، بل اطلبي أن نرعوي. أنت وُهبتِ أن تُتقني أساليب الطلب كلّها. سماؤك تعجّ بِمَنْ كلمتُهم عزيزة على قلب الله. فهل يمكنك أن تدعمي ارعواءنا بأن تجمعيهم، ليواجهونا الآن؟ فأنتِ عَلَّمْتِنا أنّهم، حاضرين، لا يكفّون عن الفعل.

هيّا، يا درّة الشرق! نادي لنا رجالك الكبار. كلّ مَنْ أنبتته أرضُنا، أو ضمّتْهُ، ناديهِ. فلكبارك ما يقولونه دائمًا. ونحن أنّى لنا أن نتنقّى إن لم نعانق لهب كبار حافظوا على "ثيابهم البيضاء"؟

أوّلاً، نادي أوريجانّس الذي دفن في "صور". دعيه يذكّرنا بأنّ "الخطايا، التي تُرتكب بعد المعموديّة، لا يكفَّر عنها إلاّ بمعموديّة الدم"! أَلِحِّي عليه أن يتكلّم على الإخلاص لِمَنْ أحبّنا حتّى الموت. ثمّ ارجيه أن يفتح مبادئه، ويقرأ: "ماذا يلتهم الله من حيث إنّه نار؟ إنّه يلتهم أفكار السوء، ويلتهم أفعال الخزي، ويلتهم رغائب الخطيئة حينما ينساب في عقول المؤمنين، وحينما يسكن مع ابنه في النفوس التي جُعلت قادرةً على أن تتقبّل كلمته وحكمته". هذا، إن لم يحثّنا على الإخلاص، فالتزامنا كلّه يكون صوريًّا.

متى ختم أوريجانّس كلامه، أسمعينا ما قاله الذهبيّ الفم لرعيّته يومًا. قولي: "الفقراء والأغنياء هم أولادي. مَنْ يُرد، فليرجمني بالحجارة. مَنْ يُرد، فليكرهني. وَمَنْ يُرد، فليعمل لموتي. المكائد ضدّ حياتي هي، عندي، وعد الأكاليل. والجروح جوائز. لا أخاف المكيدة. لكنّي أخاف شيئًا واحدًا فقط، هو الخطيئة. ألاّ يبكّتني أحد على خطيئة ما، وليحاربني العالم كلّه". ثمّ ارجيه أن يسمعنا ما قاله له يسوع. هذا كشفه لرعيّته أيضًا، ولن يخجل من أن يكرّر: "أنا لك. أنا لك أخ وعريس. منزل وطعام ولباس. أيًّا كان ما تريده، فأنا هو. لن يعوزك شيء. أكون لك خادمًا. فما جئت لأُخدَم، بل لأَخدِم. أكون لك الصديق والأخ والأخت والأمّ. أنا الكلّ لك. فقط، التصق بي. صرتُ فقيرًا لأجلك. وفوق الصليب لأجلك. وداخل القبر لأجلك. وفوق، (في السماء)، أشفع لك أمام الآب. أنت كلّ شيء لي. الأخ والشريك في الميراث، والصديق. فماذا تريد أكثر من هذا؟!". فنحن، أنطاكية، يميتنا أن ننسى أنّ قوّة البرّ تكمن في أن نرتضي الربّ عائلتنا.

إذا انتهى الذهبيّ الفم، فاسألي إسحق أن يكلّمنا على اليقظة. ابني كلامك معه على قوله "إنّ مَنْ يؤتمن على كنزٍ لا ينام". الرهبان، الذين "رجّحوا (فضيلة) الصمت على أعمالهم" الأخرى، لا يتكلّمون كثيرًا. وإن رأيت أنّه لن يرفض منك سؤالاً آخر، فاسأليه عن محبّة الإخوة. قولي له أن يعيد علينا: "لا تبدل محبّة أخيك بأيّ محبّة أخرى"، ويطوف بنا، حرًّا، بما يراه يفيدنا. فنحن، يا محبوبة، لمّا ندرك بأجمعنا الكنز الذي تركه الله لنا. ويحيا بعضنا كما لو أنّ وصيّة المحبّة الأخويّة تتعلّق بأهل كوكب آخر!

إن أراد أفرام أن يتكلّم، فدعيه يُخجلنا بإيراده، من منظومته الفردوسيّة، هذا المقطع: "ما أجهلَ ذلك الذي يأبى / أن يشعرَ بأنّه كبير! / ويَرضَى أن يكونَ بهيمةً لا إنسانًا، / يتعبّدُ لشهواتِهِ / لا يُحَرِّكُهُ حساب! / لو كان في البهائم / ذَرَّةٌ / مِن فَهْمٍ / لَوَلْوَلَتْ، وبَكَتِ / الحميرُ: / لِمَ لَمْ نَكُنْ بَشَرًا؟!". واتركينا في لحظة تأمّل. فهذه نحتاج إليها كثيرًا، لربّما نستعيد إدراكنا أنّنا بشر أرادنا الربّ كبارًا حقًّا.

بعـد أفـرام، ارجـي ابنـك يـوحنـّا أن يقرأ من مقالاته ما شاء، وينشد لنا من دمشقيّاته: "أيُّ نعيم ثبت، في الدنيا، من دون أن يخالطه حزن؟ أم أيُّ مجد استقام على الأرض من غير انتقال. الكلّ أضعف من الظلّ. الكلّ أخدع من الأحلام. لحظة واحدة، وجميع هذه الأشياء يعقبها الموت"! فنحن ماذا نكون إن لم نبقَ نعلم أنّ طاعة الإيمان إنّما تلزمنا أن نرى أنّ هذا العالم، كالنبات الأخضر، لا بقاء له.

ثمّ اتركي بولس، الذي تعمّد في أرضك، يتكلّم. أعطيه الوقت كلّه. وإن حلا له أن يجد طريقةً يقنعنا فيها بأن يقرأ علينا رسائله، رسالةً رسالة، يكون خيرًا فعل. فنحن يجب أن نعتقد، أبدًا، أن ليس من سبيلٍ يُنقّينا يفوق أن تنزل علينا الكلمة من فوق. واختمي مع إغناطيوس أن يأخذ رسائل بولس بيده، ويرفعها عاليًا، ويصرخ في وجهنا جميعنا: "ما أريده هو تطبيق تعليمكم ووصاياكم عمليًّا".

أنطاكية، تعلّمنا فيك أن ما من أمر يسمح لنا بأن نتحرّر من اتّباع الحقّ. أنطاكية، حقّقي هذا الطلب. أنت قادرة، يا مدلّلة. الكلّ يحبّونك. هذا، إن حدث، فحسبي سيكون الحدث. أنت تعلمين بأنّنا لن نكون شيئًا إن لم نتقْ كلّنا أن نكون على صورة مَنْ ضمّتهم سماؤك. أمّا إذا كان هذا الطلب مستحيلاً، فأنعمي علينا بأن نرحم أنفسنا، ونرتاح إلى واحات الخير الباقية تحمل إرث أحبّائك فيك!

شارك!
Exit mobile version