لا أستطيع، حقًّا، أن أشرح السبب الذي جعلني أكتب هذه النجاوى التي لم يخطر ببالي، أصلاً، أن أنشرها. ولا أستطيع، أيضًا، أن أحدّد إن كنتُ قد كتبتُها، أو أنّها اقتحمت أوراقي من دون استئذان. لكن، ما يمكنني قوله، بمحبّة وشكر كبيرين، هو أنّني عرضت مسوّدة هذه الصفحات على بعض إخوة أعزّاء يعنيني رأيهم كثيرًا. وذلك لئلاّ يبدو هذا العمل عملاً فرديًّا، أو تدفعني جرأتي، في بعض الأحيان، إلى التجاوز. وكانت لي، منهم، ملاحظات قيّمة أغنت المكتوب الذي حاولت، فيه، أن أخاطب "الصديق" الذي يحلو الكلام معه في النهار، وفي الليل.
على ذلك، لو بقيت هذه النجاوى، التي أُريد لها أن تظهر، على أوراق محفوظة في درجي، لما كان عندي أيّ خوف من أيّ شيء كان. شيوعها، أو نشرها، يجعلني أخاف من أمور عديدة. ولربّما أعمقها أن يقف قارئي أمام خطاياي الكثيرة، ومعظمها معروف، فيحول المعروف عائقًا بينه وبين صفحات غدت غالية على قلبي، ويرميها. وبغيتي، التي ما بعدها بغية، أن يرميني، ويُبقي عليها.
أدب النجاوى، وهو أدب معروف في المسيحيّة، نوع من أنواع التجاوب وجنونَ ذاك "الذي أحبّنا، فحلّنا من خطايانا بدمه" (رؤيا يوحنّا 1: 5). وهذا، عندي، دليل ثابت على أنّ مضمون هذه الصفحات ليس هو أدبًا بالكلّيّة، ولو أنّ ثمّة مَنْ قد يرى، فيه، بعضًا مِنْ "ألاعيب الأدب وزخارف البيان". فأنا "لست بأديب، ولا أحبّ أن أكون أديبًا". وعندي، كما يقول الكاتب المتوثّب فيدور دوستويفسكي: "أنّ استخراج ما تنطوي عليه نفسي، ووصف عواطفي، من أجل أن أعرضها في سوق الأدب، هي، في نظري، من الأمور المعيبة". وأضيف معه أيضًا: "ومع ذلك أتنبّأ، على كره منّي واستياء، أنّه يستحيل عليّ أن أتحاشى وصف عواطفي تحاشيًا كاملاً، وأن أتجنّب عرض تأمّلاتي وأفكاري (ولو كانت مبتذلة): فإلى هذا الحدّ يسقط العمل الأدبيّ بصاحبه، ولو كان لا يفعله إلاّ لنفسه. وقد تكون هذه الأفكار على جانب عظيم من الابتذال. ذلك بأنّ ما تقدّره أنت نفسك قد لا يكون له أيّ قيمة في نظر إنسان غريب" (المراهق، صفحة 13- 14).
من اختبروا صداقة "صديق نصف الليل"، يعرفون أنّ رفقته تفترض، لزامًا، رفقة أخصّائه، أو أخصّائهم (أي المؤمنين في الجماعة). ويعرفون، تاليًا، أنّ كلّ كلمة راضية إنّما يتعلّمونها ممّا يخرج من أفواههم، ومن عيونهم، ومن تنهّدات تعبق في صدورهم. يقبلونها، فتغدو تخصّهم. أي إنّهم هم، أصلاً، ليس لهم من كلمات، بل إنّما يصبح لهم إن عاشروا جماعة الكلمة، وصاروا واحدًا معهم. وهذا يبيّن، ولا سيّما لي، أنّ المكتوب لا يخصّ "صاحبه" حصرًا. وإن كان معظمه قد اعتمد صيغة المتكلّم المفرد، فهذا لا يراد، به، أن يدلّ على فرد. المراد هو الجماعة، الجماعة كلّها. وإذا حقّ لي أن أعترف، فأعترف بأنّني سعيت، في غير نجوى، إلى أن أقتبس ما لاح لي، من "ثمر"، على شفتي غيري. ولست، بهذا، أتبرّأ ممّا قد يُحسب أنّه لا يخصّني. فما يخصّ غيري يخصّني، ويخصّ، في آنٍ واحد، إخوة كثيرين. كلّنا، في الكنيسة، من "أهل بيت الله" (أفسس 2: 19)، أي جسد واحد بفضل رأسنا الواحد الذي هو مسيح الله (أفسس 1: 22، 4: 15).
هذه النجاوى هي، بكلام دقيق، تقليب لكتاب الله. هي بعض فصوله، "مُغنّاة". ولا أكشف سرًّا إن قلت إنّ ثمّة مَنِ اقترح عليّ أن أضع حواشيَ تدلّ على المواقع الكتابيّة التي استندت إليها هذه الصفحات. ولكنّ تمنّعي كان سببه أنّني لم أشأ أن أكلّف القارئ تعبًا يضاف إلى تعب قراءتها. لست، بهذا، أقول إنّ الاقتراح المذكور كان يتعبني تحقيقه، ولا إنّ النجاوى المكتوبة، هنا، هي، عندي، أهمّ من الرجوع إلى الآيات الكتابيّة. حاشا. فما من أمر، مهما سما، هو أهمّ من كتاب الله. لكنّي، أكرّر، آثرت عدم إضافة تعب إلى تعب. وحسبي أنّ القارئ النجيب، الذي يعنيه الاتّكاء على كلمة الله ورمي همومه اليوميّة عليها، لن يجهل أنوار الآيات الكتابيّة المبثوثة في هذه الصفحات، وهي كثيرة، وكثيرة جدًّا. وحسبي، تاليًا، أو رجائي أن تحثّ هذه الصفحات، مَنْ لم يبادر بعدُ إلى قراءة الكلمة الإلهيّة، على أن يفعل فورًا، ليعرف الله في مصادره، ويتقدّس بطاعة حقّه.
لا أجرؤ على اعتبار هذه النجاوى، التي لا تخلو من تفسيرٍ لبعضِ آياتٍ كتابيّة، من مصنّفات التفسير الكتابيّ. ولا أطلب أن تعتبر هكذا، ولو أنّ هذا، إن حدث فعلاً، يفرحني كثيرًا. يفرحني بسبب الأمانة للمستقى. ويفرحني، أيضًا، لإيماني بأنّ كلّ ما نقوله ونكتبه، أو يقولنا ويكتبنا، إنّما هو تفسير لهذا النهر المتدفّق الذي سمّي "الكتاب المقدّس". فالكتاب المقدّس هو عهدُ اللهِ الدائمُ معنا. عهده أن يجدّدنا، وأن يصوغنا كما يريدنا أن نكون. فمن لا يأتي من الكلمة ومعانيها المخلّصة، إنسانٌ عارٍ من نعمة الله. الكلمة، التي أوضحها التراث القويم، هي ثوبنا الذي، إن ارتديناه وحافظنا على نقائه، يمكّننا من دخول "وليمة عرس الحمل". هناك، حيث لا ينقطع الخمر الطيّب ولا الغناء ولا الرقص!
ليست هذه النجاوى، عندي، بدلاً من أيّ صلاة كنسيّة، ولم تُكتب بدلاً. وكم يطيب لي أن تُتلى صلاةً، صلاةً في أوقات الفرح، وأوقات الهمّ، وأوقات الشدّة، وأوقات البرودة و"شرود الذهن"، وغيرها. ولربّما قصدي الأعلى منها أن تعمق "صلواتنا اليوميّة"، وتزداد حرارة. هذا أقوله، بتواضع، على سبيل الرجاء. فباعتقادي أنّ غاية وجودنا هي أن نصلّي، أن نصلّي، بمحبّة وأمانة، للهِ ربِّ الجماعة وفاديها. ولا يقوم هذا، حقًّا، من دون حُسْنى، أي من دون أن "يرى (كلّ واحد منّا) الربّ دائمًا عن يمينه" (أعمال 2: 25). من يصلِّ، ليتلو كلمات فحسب، يتعب باطلاً. الصلاة تأكيد رؤية. رؤية تفوق الأحاسيس. رؤية تقول أحاسيس من نوع آخر. وهذا لا يوافقه أن نتمّم صلواتنا إذا أحسسنا بواجب إتمامها فحسب. فيجب أن نثق بأنّ الصلاة، المُحبّة والأمينة، هي التي تعلّمنا أن نحسّ، أي أن نعي أنّ الله حاضر معنا، ويسمعنا بفرح، ويعضدنا بنعمة روحه (رومية 8: 26). ولنا، في إرثنا الآبائيّ، غير إثبات على ذلك. ولربّما أعلى ما أورثنا إيّاه آباؤنا، في الصلاة، هو أنّنا، فيها، نطلب "الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله" (كولوسي 3: 1)، أو أنّنا، فيها، كما يقول أبونا البارّ يوحنّا السلّميّ: "نقرع، بعقلنا، السموات، فيما جسدنا بين الناس" (سلّم الفضائل 4: 102). ومن إرث آبائنا، أنّهم أرادوا الصلاة نقيّة، وأنّهم أرادوها دائمة. وهذا كلّه رهن بدوام أن نرغب في أن "نطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ". أي رهن بخروج إلى الله كأنّنا خارجون من العالم. خروج يتوق خروجًا أخيرًا، يرجوه "الآن وهنا".
لمّا كان يتّفق لي، في بعض الاجتماعات الكنسيّة، أن أسمع أحد الإخوة يتلو صلاة "حرّة"، أو "خاصّة"، كانت أمور كثيرة تستهويني، ولا سيّما جرأته. ففي الواقع، ليس الكثيرون، بيننا، ينتهجون هذا النهج، أو يحبّذون هذا النهج! أقلّه علنًا، أي أمام مسمع الآخرين ومرآهم. وقد يكون هذا سببه الخجل، أو ندرة الممارسة، أو الخوف من هتك أسرار النفس الراضية. وأذكر أنّه طُلب منّي، مرّةً، في مطلع التزامي، أن أختم اجتماعًا بصلاة "خاصّة" تقول الحديث، الذي تشاركنا فيه، وترفعه إلى الله القادر، وحده، على أن يجعل القول فعلاً. فحرّك منّي، وأنا أفعل، أنّني سمعت نحنحة وضحكًا خافتًا! قد لا أكون أصبت في ما قلته. لا أذكر. وقد لا يكون مَنْ تنحنح، في حينه، أو ضحك، مِنْ ذوي الخبرة. أيضًا لا أذكر. ولكنّ السؤال، الذي تحضّني نفسي على طرحه، هو: هل ستنجو هذه الصفحات من ضحك خافت، أو مدوٍّ؟ لست أعلم. ولنفترض أنّ هذا سيحدث، فهل يمنعنا الضحك "المفترَض" من أن نكلّم الله، الذي نحبّه، بعفويّة، وعلنًا؟ هذا، ورجائي أن ترقى إلى الله نجاوى هذا الخاطئ، أنا. ورجائي أن تثير، في قلوب كثيرة، فرحًا عارمًا لا ينقطع، وأن تقدّم عزاء للمحتاجين إلى العزاء. ورجائي أن نتعوّد جميعنا أن نقرّب "لله عن يده ذبيحة الحمد، في كلّ حين، أي ما تلفظه الشفاه المسبّحة لاسمه" (عبرانيّين 13: 15)، لننجو من طوارق الليل وجوارح النهار.
سُمّيت هذه النجاوى "صديق نصف الليل". والاسم مستقى من مثل أورده الإنجيليّ لوقا في كتابه الأوّل (11: 5- 8). وصديقنا الأبديّ هو يسوع ربّنا الذي يقبل الجميع، في الليل وفي النهار، ولا يردّ أحدًا خائبًا. وإن كانت هذه النجاوى يتوجّه بعضها إلى الربّ المتجسّد، وبعضها الآخر إلى الله الآب، أو إلى الروح القدس، فتبقى كلّها موصولة بالقاعدة التي رسمها التراث الحيّ، وهي أنّ الوصول إلى الله الآب طريقه الوحيد ابنه الذي نصل إليه بالروح القدس (يوحنّا 14: 6؛ 1كورنثوس 12: 3). قلتُ الصديق هو يسوع. ولست، بهذا، أجزم أنّني أستحقّ أن أكون من أصدقائه، أو أنّه يعدّني، أو سيعدّني منهم. هذا أقوله وأنا مقتنع اقتناعًا كلّيًّا بأنّ "الله، وحده، (هو الذي) يعلم العلم اليقين كيف ستجري الأمور، ومن هم أصدقاء له بالمسيح وبالروح القدس" (العلاّمة أوريجانس، في المبادئ: 1-6-4). الله هو الذي يعلم. وما لي سوى أن أرجو منه أن يغمرني، وإخوتي والناس جميعًا، برحمته وعطفه، وأن يمتّعنا بثمرة قلبه، وأن يعلّمنا أن نكون أصدقاء دائمين له، وأن يقبلنا ليل نهار. هذه نجوى لم تُكتب، حرفيًّا، في هذه الصفحات. لكنّي أنتظر، برجاء كبير، أن يكتبها الله نفسه على قلوب قرّائها، وجميع خلقه، لتصدح، دائمًا، بما يليق به وبمجده.
ما أرجوه من الله، أخيرًا، أن يسامحني إن كنت قد تجاوزت، أو أتيت، في المكتوب، بأقلّ ما يكفي. وأن يسامحني على كلّ حال.