هذا ما نقوله في بعض إعلانات خدمنا الليتورجيّة. والخدم الليتورجيّة شأنها أن تكوّننا، أو، بكلام واحد، أن نسعى إلى أن نشبهها في كلّ ما تقوله، أي أن تغدو حياتنا صورةً عن صلاتنا.
أن نقول لله "لك المجد"، أمر يفترض أن نحيا واثقين بأنّ الله، صانعنا وفادينا، يريدنا أن نوافق السماء التي تمجّده. هذا نوع من الاعتراف بأنّنا نؤمن بأنّه باقٍ يعمل في هذا العالم، ولا سيّما في قلوبنا التي يريدها له. فلك المجد، أي لك حبّنا، ونحن إليك كلّما دعوتنا إليك، حتّى تختطفنا متى أتيت ثانيةً في مجدك.
هذا المدى الملكوتيّ، الذي نسمّيه الخدمة الليتورجيّة، هو هو، موئل المجد. هذا ليس فيه حصر، بل إقرار واعٍ بأنّ الله، بإنعاماته الغنيّة علينا، بات هو زماننا ومكاننا. وإن خرجنا إلى دنيانا بعد قبولنا دعوة الله إلى أن نلتقي به وبعضنا ببعض، فنثق بأنّنا فيه، أينما حللنا أو نزلنا. كلّ مدى الخدمة أن يبقى "ملكوت الله" مدانا وحده. أليس هذا ما قصده الرسول بقوله: "فإذا أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم، فافعلوا كلّ شيء لمجد الله" (1كورنثوس 10: 31)؟ لا يحتاج قارئ عارف إلى مَنْ يوضح له أنّ ما اقتبسناه من فم الرسول هنا هو نتيجة لتعليمه عن سرّ الشكر. فبولس، ردًّا على ما "يذبح للشيطان" (الآية الـ20)، كان يريد من قرّائه أن يثبتوا على أن ليس سوى مائدة واحدة يقدِّم لنا فيها ربُّنا جسده ودمه، لنأكل، ونحيا من خيره أبدًا. كلّ تعليم عن وحدة الجماعة، في فكر بولس، مستنده أنّ الله، الذي يجمعنا في خدمة الأبد، إنّما يجمعنا إليه، لينقذنا من كلّ بعثرة قاتلة، ويجعلنا واحدًا فيه، لنبقى فيه.
إذًا، لسنا، في إعلان "لك المجد"، أمام إعلان ينقضي بانقضائه، بل أمام حقيقة أبديّة تمشي. فالحياة المسيحيّة، التي قوامها أن نكون إلى الله كلّما دعانا إليه، تمشي، أو يجب أن تمشي (فينا). وهذا، في كلام لا يخالفه تواضع، ما وجدت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من أجله. كلّنا نعلم أنّنا لم نعرف زمانًا، في العهد الجديد، لم تُقم فيه الخدمة الإلهيّة. ولربّما خير ما يجب أن نذكره، دائمًا، أنّها إرث سلّمنا إيّاه لا سيّما الشهداء الذين آمنوا بأنّ الله قد "وضع مائدةً أمامنا". وهذا، في ترتيب الخدمة، هو ما يفسّر ذكر "القدّيسين المجيدين الشهداء". إنّنا نذكرهم لما لهم من فضل على قلوبنا. نذكرهم، لنذكر أنّ ما نقيمه هم، أيضًا، كتبوه بدمائهم. ولكنّنا عرفنا أزمنةً طويلةً لم يكن مقتضى الخدمة يمشي فيها. قراءتنا لتاريخنا الحديث تكون عرجاء، كلّيًّا، إن لم نرَ أنّ الربّ قد تدخّل في زمانِ شللٍ (شبهِ كلّيّ)، ليقول لنا علنًا: "يجب أن تحملوا حبّي، الذي أقدّمه لكم في كلّ خدمة، أينما توجّهتم. هذا بذلته كُرمى لكم، ليمشي".
أن نحمل حبّ الله، يعني أن نعترف بأنّ له المجد وحده. لقد علّمنا المعتبَرون، في تيّارنا النهضويّ، أن نرفع المجد إلى الله على كلّ عمل يُظهر رضاه. ماذا أرادوا أن يقولوا لنا، واقعيًّا؟ أرادوا أن نتعلّم أنّ كلّ تعب نبذله إنّما هو دخول على تعب ابن الله، أي أرادوا أن نؤمن بأنّنا لا نخرج من الخدمة البتّة. في الخدمة، نقول للربّ: "لك المجد". ونبقى نقولها، هي عينها، أبدًا. وهذا يعني أنّنا إنّما قائمون حصرًا، لنذكّر بالحقّ المعلن بالخدمة الإلهيّة. تصوّر أن يراك أحد أترابك، "خارج الخدمة"، ترفع المجد إلى الله على عملٍ راضٍ قمت أو سواك به. تصوّر ما يمكنه أن يقول في نفسه. سيقول، أو يجب أن يقول، إنّ هذا، في كنيستنا، نقوله في الخدمة. وإن كان غنى قلبه يعنيه، فسيكتشف أنّك، واعيًا، لا تخرج من الخدمة. إن كان قلبه يعنيه، فسيدرك أنّك، قائمًا أمام الله الآن، تمدّ له من طيّبات المائدة التي مُدّت لك ولإخوتك في لقاء أبديّ.
هذا، بالضرورة، يعني أنّ الحياة الكنسيّة لا تحتمل أيّ نوع من أنواع البطالة. إن كانت الليتورجيا هي "عمل الشعب"، فهذا يعني أنّ شعب الله شعب فاعل. وكلّ فعل راضٍ لا يوافق قيامه أن تقودنا إليه المصادفات (على أهمّيّة الإفادة من كلّ فرصة سانحة)، بل يفترض وعيًا دائمًا أنّنا قومٌ كلُّ سعينا أن نمجّد الله في العالم، في غير وقت. وحتّى أستبق أيّ تأويل يُخرج ما أقوله عن هدفه، لا بدّ من التبيان، بصوت واثق، أنّ رفع المجد إلى الله يتكامل وتكليف الجماعة. ثمّة أسئلة عديدة مطروحة في أوساطنا. ولا نعلّي سؤالاً ونخفض آخر، إن رأينا أنّ من أعلى هذه الأسئلة: ما هو، كنسيًّا، شرط القيام بعمل ما؟ ما هو شرط التكليف؟ والجواب واضح: الإيمان بأنّ لله المجد. وهذا إيمان لا يقبل أيّ استثناء، أيّ مساومة، أي، باختصار، أيّ تشويه أو رضوخ لواقع متعب. مثلاً، إن كان من الشرعيّ أن نعتقد أنّ العمل لا يمكن أن يتمّه، كما يجب، مَنْ يجهلون تعليمنا القويم، إلاّ أنّ شيئًا لا يسمح لنا بأن نحصر التكليف بِمَنْ برّزوا في العلم في الجماعة. فهؤلاء، إن لم يكونوا نورًا على نور، أي إن لم توافق حياتهم ما تقوله كنيستهم، فلن يفيد تكليفهم أحدًا. وإن أفاد، لا يكون لهم أيّ فضل، بل الله أراد أن يقتحم ظلمَنا أنفسَنا برحمته.
كلّ نهضتنا أن تكون حياتنا موئلاً لمجد الله. أن نحيا كما لو أنّنا لا نخرج من الخدمة بتاتًا، لهو أن نكون صوتًا صارخًا في برّيّة هذا العالم. تعالوا، يجب أن نقول لكلّ مَنْ وضعهم الله على دروبنا (أن نقول لفظًا أو حياةً)، تعالوا إلى الله الممجَّد والذي يستحقّ المجد فيكم. تعالوا إلى خدمته التي تحيينا أبدًا. تعالوا، لنمدّ، معًا، لكلِّ جائعٍ مائدةَ البرّ التي هي مسيح الله الذي جاء، ليرفعنا إلى مراتع مجده.