يدلّ يوحنّا الإنجيليّ على ميل يسوع، الراضي بكماله، إلى صديقه لعازر أخي مريم ومرتا، بقوله العلنيّ: "وكان يسوع يحبّ... لعازر" (11: 5، انظر أيضًا: عن هذا الميل المكرّر في يوحنّا 11: 11).
ليس أحلى من هذه المحبّة دليلاً إلى معنى إقامة لعازر. فالمحبّة، هنا، أي محبّة الربّ له، هي التي تلفّ معنى هذه الإقامة، أي تقول إنّ محبّة الربّ أقوى من الموت! لن ندخل، في هذه السطور العجلة،
في حدث إقامة لعازر مباشرةً، بل سنحاول أن نستنطق ما قاله يوحنّا تعرّفًا بلعازر حبيبًا إلى الربّ. ولهذه الغاية، سنتبع أمرين دلّ عليهما الإنجيليّ بعد خبر الإقامة. أوّلهما أنّه كان في جُملة الذين اتّكأوا مع يسوع على عشاء أقيم على شرفه (12: 2). وثانيهما أنّ رؤساء الكهنة عزموا على قتله (12: 12).
إذًا، أوّل هذين الأمرين تمّ في سياق الوليمة التي أُعدّت ليسوع في بيت عنيا تكريمًا لإعادته لعازر إلى الحياة. وجود لعازر معه يبدو أمرًا طبيعيًّا. وإنّه لكذلك. ولكنّنا مدعوّون إلى أن نطلّ، من ضمن هذا الوجود الطبيعيّ، على الصداقة التي تجمع بين الرجلين. أن يأتي يسوع إلى بلدة لعازر (أو إلى بيته)، يعني أن يتفرّغ لعازر له تفرّغًا كلّيًّا. هذا ما يفعله الصديق مع صديقه، وكيف إن كان المحيي؟ وهذا ما يجب أن نقرأه، أيضًا، في هذا الاتّكاء. واللافت، في هذا المشهد الذي يعجّ بالكلام، أنّ لعازر المقام من الموت يتّكئ صامتًا كلّيًّا. يسوع هنا! وإذًا، أيًّا يكن الآخر أو الآخرين، وأيًّا يكن ما جرى معهم أو لهم، ليسوع، وحده، حقّ الصدارة والعيون والآذان ومدى القلوب كلّها. لعازر، في صمته، نسمعه كما لو أنّه يرفع المجد إلى مَنْ يليق به المجد وحده. لا يبدو محتجبًا، بل مشدودًا إلى الإله الذي يُحتفى به. صامت بلى، إنّما أحاسيسه كلّها موجّهة إلى حيث يجب. لا يريد أن يخسر دفء كلمة يتلفّظها، أو حركة يجريها، أو تجرى له. كلّ ما يفعله يسوع، أو يقبله يسوع، قيمة كلّيّة. وهذه كلّها تدفع إلينا الحياة التي وُهبها لعازر. فما أجراه يسوع له، يفصح لعازر، في هذا الالتصاق الظاهر بالمعلّم، أنّ الحياة، التي نالها من جديد، تفترض هذا الالتصاق عينًا. فالحياة الحياة أن نكون مع الربّ، له وإليه. هذا ما يجب أن نقرأه، هنا، أيضًا. وإذا ذكرنا أنّ المناسبة أنّهم كانوا على العشاء، وإذا كان الكلام على مائدة لا يبدو سوى إشارة أو إطار، فتكون المائدة الحقّ هي حضور الربّ نفسه. هذا، أيضًا، يقول إنّ الأمر الأعلى، في حضور الربّ، ليس ما يُؤكل وما يُشرب، بل الشخص الذي تتّكئ معه. المائدة، هنا، هي شخص الإله الكلمة التي جوارح لعازر كلّها كانت مشدودة إليه.
الأمر الثاني كان عزم الرؤساء على قتل لعازر. ربّما طبيعيًّا، أيضًا، أن نجد معنى هذا العزم في سياق ما أحدثته إقامة لعازر، في ذلك المدى، من شهرة ليسوع. يريد الرؤساء أن يقضوا على كلّ إثر يُظهر اقتدار السيّد. وإذًا، يجب أن يموت لعازر. وهذه قراءة لا تبعد عن الحدث. لكنّ هذا العزم الإجراميّ يجب أن يقنعنا بأنّ ما أراد الرؤساء أن يقضوا عليه إنّما المحبّة التي تجمع ما بين لعازر ويسوع، أو يسوع ولعازر، أي أن نرى فيه مصير أحبّاء الربّ المخلصين. لم يكتب أنّ لعازر كان من الذين تبعوا الربّ. لم يضعه أحد مع الذين تركوا كلّ شيء، وربطوا مصيرهم بمصير المعلّم. لكنّنا، في هذا العزم، يجب أن نراه تلميذًا! العالم شأنه أن يكره أخصّاء يسوع أبدًا. "فجميع الذين يريدون أن يحيوا حياة التقوى في المسيح يسوع يضطهدون" (2تيموثاوس 3: 12)، نقرأها، هنا، ببلاغة غير مرتجلة. هل استطاع الرؤساء أن ينفّذوا عزمهم؟ لا يقول لنا الإنجيليّ يوحنّا، الذي تفرّد بذكره حدث إقامة لعازر، شيئًا من ذلك. يكتفي بإظهاره عزمهم. وهذا يكفي، ليوجّه رسالةً تامّةً إلى كلّ مَنْ تربطهم بالربّ علاقة ودّ. طبعًا، في قراءة عاديّة، يمكننا أن نميّز لعازر عن الناس جميعًا. ولكنّنا، إن أردنا أن نكون موضوعيّين في قراءتنا، يجب أن نستبعد هذا التمييز قليلاً أو كلّيًّا. فالسيّد، الذي أحيا لعازر، هو الإله الذي أراد أن يبيّن أنّه ربّ الحياة، أي واهب الحياة. لعازر، هنا، هو إيقونة كلّ مَنْ آمنوا بأنّ الربّ أخرجهم من قبورهم إلى بركات الحياة الجديدة. هؤلاء، إذا التصقوا بالربّ محييهم، يقول يوحنّا إنّ العالم عزمُهُ أن يميتكم. لماذا هذا التضاد ما بين الحياة والموت؟ سؤال لا يمكن أن يجاب عنه بسوى ذكرنا أنّ العالم لا يكره إلاّ يسوع نفسه. العالم، بكلام صريح، لا يكره بشرًا، أيًّا كانوا، بل يكره انشغال القلب بإله حيّ ومحيي، ويكره، تاليًا، كلّ "ضجّة" يحدثها هذا الانشغال، وكلّ التفاف حوله. أن يصمت المحبّون، أن يقضى عليهم، أن ينتفي أثرهم، هذا، فحسب، ما يريده العالم. هنا، يجب أن نقرأ قول يسوع: "إذا أحبّ بعضكم بعضًا، عرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي" (يوحنّا 13: 35). لِمَ يجب أن نقرأها هنا؟ لكون كلّ محبّة، تربط أحبّاء الربّ بعضهم ببعض، تستقي لذاتها من محبّة الربّ نفسه، وتعلنها سليطةً على الكون. ويجب أن نرى، في هذا العزم عينه، أنّه يهيّئ لقتل الربّ أيضًا. لعازر يجب أن يموت، أي يسوع يجب أن يموت. هذا يذكّرنا بأنّ السيّد أنبأ بمصير أحبّائه عندما أنبأ بما سيحدث له ولهم، بقوله: "أضرب الراعي، فتبدّد خراف القطيع" (متّى 26: 31؛ قابل مع زكريّا 13: 7). وإذا كان مصير الربّ مصير أتباعه، فتكون حياته فيهم هي الهبة الأبديّة التي لا يقوى عيلها أيّ عزم شرّير.
كان يسوع يحبّ لعازر. هذه تختصر ميل السيّد إلى كلّ إنسان في هذا الوجود. وهذه، التي لا يقدر العالم على أن يلغيها، ستبقى تقول، في بقع الموت كلّها، إنّ محبّة الربّ هي مائدتنا وشهادتنا.