الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

لبنان اليوم

نادرة هي الفضيلة في عالم السياسة. هذا أقوله صداقةً من دون إدانة. هل للبنان اليوم أن يقوم من هذا الدرك الذي أوصلنا أنفسَنا إليه؟ إنّه قائم في عيون تبتّلت حبًّا به وبقيامه، وقائم، في أقصى جَماله، على الرجاء.

أليس الرجاء أعظم ما يدفعنا إلى تجديد الحياة؟

لا أغتصب حرّيّة أحد. أعرف أنّ الذين عادوا لا يطيقون أن يحيوا في هذا البلد تتعاظم أعدادهم اليوم أكثر بكثير من أيّ يوم مضى. لا أدّعي أنّني أعرف ما في القلوب. الذي أعرفه أنّ الإنسان كائن حرّ ومرتبط. كلّ إنسان في الكون لا يحيا في بلده فقط، بل يحيا بلده فيه أيضًا. اخرج إلى أيّ مكان تريد، اترك وراءك كلّ ما تريد، هناك صديق وفيّ لا يمكنك أن تُخرجه منك. نحن من هذه الأرض، أو جزء منها، ما من فرق!

هذا البلد، كما هو ظاهر للقاصي والداني، تكوّنه اليوم عناصر عدّة لا تعرف أن تمشي معًا على درب تعافينا. لا أرمي علينا ما ليس فينا. نحن بلد قابل، بفعل عناصره، أن ينشأ فيه عنصر جديد لا يقبل العناصر الأخرى. لا يرفضها فقط، بل يكفّرها أيضًا، يعاديها، ويطلب أن يلغيها… أجل، أخاف كثيرًا من إراقة الدماء في لبنان. أعرف أنّ الآلة الحربيّة غير موجودة في يد جميع اللبنانيّين، اليوم. لكنّها، بقرار يأخذه أحدهم في مكان ما في الأرض (تذكرون: حرب "الآخرين" على أرضنا!)، يمكنها أن تنوجد! لبنان، هذا البلد الذي ما زال فيه مكان رحب للحقد، ساحاته ما زالت مهتاجة. إنّه، إلى هذه الساعة، أرض خصبة لإراقة الدم. لا أبشّركم بظلام دامس يتربّص بنا، أو بظلام لا بدّ من أنّه آتٍ. لا أدّعي النبوءة. كلّ ما هو أمامي تاريخ مشبع بالدم أقول لنفسي في كلّ يوم: "لا تكون عاقلاً إن لم تتعلّم منه".

لنعترف! لا يمكننا أن نبني لبنان جديدًا إن لم يرَ أحدنا إلى ما عند الآخر. بناء الأوطان لا يكون بإلغاء الآخرين المختلفين عنّا، في الدين أو المذهب أو السياسة أو في أيّ شيء آخر… يجب أن نقرّ أمام أنفسنا أوّلاً، ثمّ أمام الله والناس، بأنّ خطيئتنا العظمى، في هذا الوطن، أنّ كلاًّ منّا يميل إلى أن يثبت نفسه فقط. لا يسمع لنفسه فقط، بل (تقريبًا) لا يهمّه سواها أيضًا. نحن أقوام بتنا نبدو لا نعرف سوى أن نتناحر، سوى أن نرى الآخرين (المختلفين عنّا) عقيمين كلّيًّا لا ينفعون في شيء للحاضر وللمستقبل. لا أريد أن أنحصر في المرض، بل أن أرجو العلاج. ما الفضيلة التي يمكن أن تعالجنا في وضعنا؟ ذكرتها! إن كان من مكان للفضيلة في بناء لبنان، فمن الواجب أن ننطلق باعترافنا بالآخر شخصًا فريدًا لا يمكننا أن نحيا من دونه.

هذا كلّه يعني أنّ الوطن هو ناسُهُ. لبنان ناسُهُ. إرث لبنان الفنّيّ يعجّ بقصائد تتغنّى بسمائه وأرضه وجباله وبحره… حسنة هذه القصائد. ولكنّ لبنان ناسُهُ أوّلاً. يجب في لبنان اليوم، ليقوم لبنان، أن يسقط كلّ مَن يحرّضنا بعضنا على بعض، أيًّا كان. اللبنانيّ الحقيقيّ هو الذي يبحث عن أن يحيا الآخرون قبل نفسه. لا يمكننا أن نعلن أنّنا نعبد إلهًا واحدًا، ونكفر في الحياة، ونشرك! تأمّلوا في وضعنا جيّدًا. ما نحن عليه، لا ينفع سوى الذي لا يريدنا في هذا الوجود. الذين يكرهون وجودنا لا بدّ من أنّهم يقولون عنّا في سرّهم وعلنًا: "تلهّوا بعضكم ببعض، يا جَهَلَة. لا أعظم من هذا التلهّي لتخلّفكم وخرابكم"!

أحاول أن أبقى قويًّا في حبّي لخيارات تعمّرت سنيني عليها. هذا، لعمري، جهاد عظيم! أصدقائي وأولادي يعلمون كلّهم أنّني لم أترك مناسبةً لم أدعهم فيها، على ظروفنا الصعبة، إلى التشبّث بهذه الأرض. بعضهم تركونا من دون أن يستأذنوا. هجروا بصمتٍ كما لو أنّهم ضيوف في أرض غربة! لم يطلبوا رأيًا كانوا يعرفونه. غلبهم تعبهم، وغابوا. لا أعتذر منهم! لا أتراجع عن هذا الجهاد لي ولهم. لا معنى لشيء في هذا الوطن إن لم نعتبر أنفسنا أنّنا كلَّنا مسؤولون عنه. أعرف ضعفات لبنان. لا أعزّي نفسي بأنّ العالم كلّه ضعفات، بل أقول إنّ هذا البلد هو مدى عملي. نحن هنا بقصد. ماذا ينتظرنا في الغد؟ لا أعرف. الذي أعرفه أنّ لبنان لن يكون أفضل إن لم أطلب من نفسي أوّلاً أن أكون أنا شخصًا أفضل. الفضيلة في السياسة، كما في مدى التقرّب إلى الله، هي أن أكون أنا نفسي أفضل أوّلاً. أجل أنا، أنا أوّلاً.

يبقى أن نسعى. الحبّ يَفهم. هذا وطن قادر على القيام. بعض رجاء. بعض رجاء!

(نشر المقال في مجلّة النّور، 4/2020)

شارك!
Exit mobile version