فيما كان المعمدان مرميًّا في السجن، كانت شهرة يسوع قد بلغت أوجها. فطلب من بعض تلاميذ، حافظوا على علاقتهم به، أن يقصدوا يسوع، ويسألوه: "أأنت الآتي، أم ننتظر آخر" (متّى 11: 3).
لِمَ هذا السؤال؟ لِمَ طرحه يوحنّا علنًا؟ ماذا كان يجول بباله؟ لِمَ أصرّ على أن يُجاب عنه؟ أسئلة، لولا جواب يسوع (وعلمنا بقيمة يوحنّا)، لكانت فتكت بنا. لكنّه أجاب. قال لِمَنْ أُرسلوا: "اذهبوا فأخبروا يوحنّا بما تسمعون وترون: العميان يبصرون، والعرج يمشون مشيًا سويًّا، والبرص يبرأون والصمّ يسمعون، والموتى يقومون والفقراء يبشّرون، وطوبى لِمَنْ لا أكون له حجر عثرة" (11: 4- 6). هذا بعض من جواب. ولكنّ الإنجيليّ، الذي دوّن ما جرى، أرادنا أن نزداد ثقةً بمكانة هذا النبيّ في قلب الربّ. فتابع نقل الإجابة: ولمّا انصرفوا، أخذ يسوع يقول للجموع في شأن يوحنّا: "ماذا خرجتم إلى البرّيّة تنظرون؟ أقصبةً تهزّها الريح؟ بل ماذا خرجتم تنظرون؟ أرجلاً يلبس الثياب الناعمة؟ ها إنّ الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك. بل ماذا خرجتم ترون؟ أنبيًّا؟ أقول لكم: نعم، بل أفضل من نبيّ. فهذا الذي كُتب في شأنه: هاءنذا أرسل رسولي قدّامك / ليعدّ الطريق أمامك" (7- 10). ثمّ شهد أنّه لم يظهر في أولاد النساء أكبر من المعمدان، وأنّه آخر الأنبياء الذي قيل عنه إنّه سيعمل عمل إيليّا (11- 15).
إذًا، أجاب يسوع. كان سؤال يوحنّا ظرفًا مناسبًا، ليستفيض في كلامه عليه، ويرفّعه إلى علوٍّ يعرفه فيه. أجابهم. أجابنا. قال: "اذهبوا فأخبروا يوحنّا". لقد أتاه السؤال منه. وهم رسله. ويجب أن يعودوا إليه، ويخبروه بما سمعوا، ورأوا. لا يخبرنا متّى الإنجيليّ أنّ يسوع صنع عجائب أمام مَنْ حملوا إليه السؤال (كما فعل لوقا في المقطع الموازي 7: 18- 30). هل سمعوا الناس يتكلّمون على ما فعله؟ يمكن. ولكنّ الربّ كلّمهم كما لو أنّهم رأوا ما صنعه من عجائب. هذا من حقّ الكلمة. تسمع، أي ترى. أينما كنت، ولو في غياهب الأرض، إن وصلت إليك أعمال الكلمة، فأنت يجب أن تسمعها كما لو أنّك تراها. يوحنّا هذا نوعه. يسوع أشار إلى إخلاصه. "وتكفيه شهادته". ثمّ عدّد الربّ العجائب التي تبيّن أنّه مسيح الله حقًّا. وطوّب مَنْ لا يشكّ فيه. مَنْ قصد بهذه الطوبى؟ يوحنّا؟ تلاميذ يوحنّا؟ الجموع الحاضرين؟ الناس في غير جيل؟ نحن أيضًا؟ مَنِ الذي يشكّ فيه؟ هل نستثني يوحنّا؟ لقد رفض الربّ، في ما قاله للجموع، أن يكون نبيّه: "قصبةً تهزّها الريح". هل لم يرفض؟ ماذا أراد؟ هل رآه له رأي فيه أمس، واليوم له رأي آخر؟
يجب أن نستعيد سؤال يوحنّا. قال: "أأنت الآتي، أم ننتظر آخر؟". مَنِ الذي قال؟ نبيّ، بل أفضل نبيّ، بل أكبر مَنْ ولدته امرأة، بل آخر نبيّ. وهذا يؤهّلنا لأن نعتقد أنّ الربّ لم يصغِ، في سؤال يوحنّا، إلى رنّة شكّ فيه. الأنبياء لا يشكّون. إلامَ أصغى يسوع، إذًا؟ إلى سؤال استفساريّ. يوحنّا يعرف العلامات المسيحانيّة التي ذكرها يسوع في جوابه (شفاء العميان والعرج والبرص والصمّ، وإقامة الموتى، وتبشير الفقراء). ويعرف علامةً أخرى: الحرّيّة التي يسترجعها الأسرى (لوقا 4: 18). واستفسر، فيما هو سجين، إن كان سيتحرّر أو لا. وردّ يسوع بما يعرفه يوحنّا: بأنّ رسالة هذا النبيّ الأخير، التي هي تمهيديّة، قد تمّت. ولكنّ هذا، الذي يعرفه ونثق بأنّه قناعته، يدفعنا إلى أن نفتّش عن أشخاص آخرين ربّما كان سؤال يوحنّا قابعًا في صدورهم أو على أفواههم. مَنْ هم؟ هذا يجعلنا نذكر، سريعًا، أنّ هذا الحوار سجّله متّى الإنجيليّ بعد إجرائه بنحو خمسين سنة. هل هذا يسمح لنا بأن نعتقد أنّ ثمّة مَنْ كانوا يردّدون هذا السؤال في زمانه، إنّما بأهداف أخرى؟ من الممكن كثيرًا أن يكون، عندما كُتب هذا الإنجيل، ثمّة أشخاص، تبعوا المعمدان، لم يرضهم أنّ معلّمهم قُتل في سجنه، وشكّوا في أنّ يسوع هو الآتي. وهذا يجعل ما قلناه عن الرؤية، التي تأتي من السمع، قائمًا، بإلحاح، في هذا السياق. فمسيحانيّة يسوع يقدّمها متّى في إنجيل يُقرأ. وإذًا، يجب أن يُرى يسوع، الذي يشهد له متّى الإنجيليّ، أنّه الآتي الذي بشّر به آخر الأنبياء.
لم يشفِ يسوع، بمجيئه، المرضى كلّهم، ولم يقم الموتى كلّهم، ويحرّر مساجين الأرض جميعًا. لكنّ العجائب، التي صنعها، كانت كافيةً، لتدلّ على أنّه المسيّا المنتظر. كان ما فعله علامةً ساطعةً على أنّ ملكوت الله بات هنا حقًّا، فيه. هذا كلّه لم يشكّ يوحنّا فيه. إطلاقًا، لم يشكّ فيه. لكن، هل يخلو الكون مِمَّنْ يشكّون؟ قيمة يوحنّا أنّه، فيما أتى "ليعدّ طريق الربّ"، ارتضى أن يموت إخلاصًا للحقّ. قيمته أنّه كان صادقًا دائمًا في أقواله وفي تفاصيل حياته (ألا يذهلنا، في هذا السياق، أنّ الربّ ألمح إلى ثيابه؟!). هل تألّم يوحنّا في سجنه؟ يجب أن يكون قد تألّم. لكنّنا لا نرى أنّه قرأ رسالة الربّ على ضوء ما فعله له أو لم يفعله له. لقد شفى يسوع بشرًا، أقام موتى، حرّر الكون، هذا يكفي، ليكون هو الآتي حقًّا.
متّى هو واحد من كتّاب العهد الجديد الذي كلّه رسالة إلينا. ربّما بعضنا، اليوم، يطرحون سؤال يوحنّا (إن علنًا أو سرًّا). ويجب أن نستحقّ، مثله، أن ينطبق علينا ما قاله الربّ فيه. كلّنا يجب أن نستأهل الطوبى. هذا لا يعني أنّ أيًّا منّا هو آخر الأنبياء! لكن، يجب أن يعني، دائمًا، أنّنا كلّنا مدعوّون إلى أن نكون ثابتين في الحقّ، فقراء إليه، عارين من كلّ مجد أرضيّ فانٍ، لنجيب كلّ شكّ في التاريخ بما سمعنا، ورأينا. هذا هو الإعداد الدائم لِمَنْ قيل فيه: "قليلاً قليلاً من الوقت / يأتي الآتي ولن يبطئ" (عبرانيّين 10: 37).