كان الحلف قديمًا عادة من عادات التقوى (تثنية 6: 13، 10: 20). وكان الناس يتبادلونه في بعض الحالات والمناسبات (تكوين 21: 22- 32، 24: 2- 4، 47: 29؛ 1صموئيل 14: 44، 25: 22؛ أنظر: قضاة 8: 19؛ 1صموئيل 20: 3؛ 1ملوك 17: 10 ودانيال 12: 7)، وذلك أمام الله اعترافًا بوحدانيّته وسلطته على الكون (إشعيا 19: 18؛ إرميا 12: 16). ومن المعروف أنّ بني إسرائيل نسبوا صدور الأحلاف إلى الله ذاته، بغية توثيق عهده (تثنية 4: 31، 7: 8) ودعم كلامه (حزقيال 20: 3، 33: 11). وكانت صيغته المعتادة: "حيّ أنا". إذ لا يمكن لله أن يبني صدق كلامه على أحد غيره.
ثمّ لا يخفى أنّ الشريعة القديمة شجبت الحلف باطلاً. تقول الوصيّة الثالثة: "لا تنطق باسم الربّ إلهك باطلاً، لأنّ الربّ لا يبرئ مَن نطق باسمه باطلاً" (خروج 20: 7؛ أنظر أيضًا: هوشع 4: 2؛ إرميا 5: 2، 7: 9؛ حزقيال 17: 13- 19 وملاخي 3: 5 ...). ولقد وُسِّع، في وقت لاحق (بعد العودة من السبي)، مجالُ الوصيّة، إذ انتشرت عادة الحلفان التي تستخدم اسم الله في الأغراض المادّيّة الوضيعة والتي تكثر من فرص اليمين الكاذبة. فحُظِّر على الناس الاستخفاف بذكر الله، أو التلفّظ باسمه بطيش. فصاروا، زيادةً في المخافة والإجلال، يبدلون اسم الله، لا سيّما في العبادات وقراءة الكتب المقدّسة، بصيغ أخرى تدلّ على جبروت إلههم ورفعته (مثل: القويّ أو القدير...)، أو بألفاظٍ تحلّ محله (السماء...). ولعلّ هذا يمكن استنتاجه، في كتب العهد الجديد، من قولٍ يوجّهه يسوع إلى قادة إسرائيل ومعلّميه، نقرأ: "الويل لكم أيّها القادة العميان، فإنّكم تقولون: مَن حلف بالمَقْدِسِ فليس هذا بشيء، ومَن حلف بذهب المقدس فهو مُلْزَم... ومَن حلف بالمذبح فليس هذا بشيء، ومَن حلف بالقربان الذي على المذبح ملزم... ومَن حلف بالسماء حلف بعرش الله وبالجالس عليه" (متّى 23: 16- 22).
عبّر يسوع عن فكره، في هذا الصدد، بدقّة تامّة. فهو لم يلجأ إلى الحلف، ليثبّت تعليمه. لكنّه قدّم أقواله بعبارته المألوفة: "الحقّ أقول لكم"، وبتكرار لفظة "الحقّ" (إنجيل يوحنّا) قَبْلَ أن يقول كلامه الذي لا يحتاج صدقه إلى توقيع أحد. وفي عظة الجبل، ردّد يسوع الأوامر القديمة التي تمنع الحلف، بقوله: "سمعتم أنّه قيل للأوّلين لا تحنث، بل أوفِ للربّ بأيمانك"، فدلّ على قداسة هذا المنع. غير أنّه عمّق الوصيّة بحجبه لفظة "باطلاً" القائمة في السياق القديم، وتاليًا بمنعه جماعته من كلّ أنواع الحلف، وذلك بقوله: "وأمّا أنا، فأقول لكم: لا تحلفوا أبدًا، لا بالسماء لأنّها عرش الله، ولا بالأرض فهي موطئ قدميه، ولا بأورشليم فهي مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك فأنت لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدة منه بيضاء أو سوداء. فليكن كلامكم نعم نعم، ولا لا. فما زاد على ذلك كان من الشرّير" (متّى 5: 33- 37؛ أنظر: 1تيموثاوس 1: 10؛ يعقوب 5: 12 …).
وما لا شكّ فيه أنّ الحلف (بالله ومقدّساته...) يجعل الديانة فارغة. وذلك بأنّ الصدق في علاقة الناس بعضهم مع بعض - وهو طلب يسوع الجديد - هو الدلالة على أنّ المسيحيّين فهموا أنّ المسيح قد أتى، وفتح أمامهم مملكة الصراحة والشفافيّة. فالصيغة، التي يطلبها الربّ، هي: "نعم نعم" أو "لا لا"، وليس: نعم ولا، لأنّ كلّ زيادة على ذلك هي "من الشرّير". يقول يسوع، إذًا، "لا تحلف أبدًا"، لأنّ لله السماء والأرض، أيّ لأنّه موجود في كلّ مكان وسلطته لا تحدّ. ويقول: "لا تحلف برأسك..."، لأنّه ليس من أحد يملك نفسه، فالإنسان يخصّ الله الذي يسوده ويسود العالمين. ولذلك، لم يقبل القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم أن تُنتقص هذه الوصيّة، أو تخفّف، مهما كان السبب، إذ قال: "قد يقال: ماذا إنْ اضطرّ إنسان إلى أداء قسم وخضع للإكراه؟"، ويجيب هو نفسه عن سؤاله، بقوله: "ليكن خوف الله أقوى من الإكراه، لأنّك، إنْ كنتَ ستورد أعذارًا مِثل هذه، فلن تحفظ أيًّا من الأمور المفروضة عليك" (عظات على إنجيل متّى).
عادة "الحلف"، على أنواعه، وهي شائعة جدًّا في زماننا، يجب أنّ نواجهها بصدق المسيح الواجب توفّره بين المؤمنين. فأنت، مسيحيًّا، إن كنت تحترم عزّة الله وجلاله، تقول كلمتك بثقة. فهي، إنْ لم تكن صادقة، فلن يجعلها الحلف غير ما هي عليه. فمَن يحلف إنسانٌ لا يأتي من الوصيّة الجديدة، وليست له ثقة بذاته. "لا تحلفوا أبدًا" هي وصيّة يسوع الجديدة التي تنقذ المؤمن من الضعف ومن كلّ خوف. وشأننا، مؤمنين، أن نعرف أنّ يسوع عالم بما في قلوبنا وأفكارنا، وأنّه، تاليًا، حاضر معنا، ويرانا، ويسمعنا في حال صدقنا أو كذبنا. وشأننا أن نتعلّم أنّ حقّ إلهنا أقوى من حقّ العالم وكلّ كذب يختصّ به إبليس الذي قضى عليه يسوع لمّا علّق على خشبة الصدق.