الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

كَتِفٌ على كَتِفٍ

تتعالى اليوم، في الكنيسة، أصوات بعض مَنْ ينتقدون تقدّم المؤمنين "العشوائيّ" إلى المناولة المقدّسة. وحجّتهم، التي لا يخفى برُّها، أنّ هذا التقدّم يفترض استعدادًا حدّده التراث بالصلاة والصوم ومصالحة الإخوة والاعتراف. وهذا صحيح، إذا فهمنا الاعتراف جزءًا من سرّ التوبة، ولم نربطه بكلّ دنوٍّ من الكأس المقدّسة.

لا نريد أن يبدو ما سنقوله انتقادًا لانتقاد المنتقدين، بل أن ندعوهم إلى وقفة تأمّل في واقع متعب. فالظاهر أنّ بعضهم لا يأخذ في الاعتبار أنّ المؤمنين الملتزمين لا يسبّح معظمهم الربّ "سبع مرّات" في اليوم. فالخدمة الإلهيّة هي، تقريبًا، تعزيتهم الأسبوعيّة، أو صلاتهم الكنسيّة الوحيدة. ولا يعني هذا أنّنا نحكم أنّ الناس لا يصلّون ويصومون قبل كلّ خدمة، أو لا يصلّون أو يصومون بتاتًا. ولا يعني، تاليًا، أنّنا نريد الكسالى منهم أن يبقوا على ما هم عليه.

كلّ تذكير بالحقّ واجب وضرورة. ولكن، لا نريد أن نعتقد أنّ بعض المعترضين على هذا التقدّم يريدون انتقادَ التعليم المبرور الذي نادت به حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، منذ مطلع ظهورها، في أربعينات القرن المنصرم، أي انتقادَ حثِّها المؤمنين على المناولة في كلّ خدمة إلهيّة، أو نسبهم إليها إغفال ضرورة التهيئة! ولا أنّهم يريدون، تاليًا، إعلاء التهيئة على المشاركة في الخدمة عينها. فهم، لا شكّ، يعرفون أنّ تراثنا، الذي أوصى بالتهيئة الموصوفة، لم يفاضل بينها وبين الاقتراب من الكأس المقدّسة. ويعرفون أنّ خير ما يطلبه أن يكون قلب كلّ إنسان عامرًا بالمحبّة والبرّ والرضى. فالحياة مع الله قوامها قلب شأنه أن يرتفع إذا صلّى، ويعمق إذا عاشر الكلمة، ويتواضع إذا صام، ويغدو قلبًا حقيقيًّا إذا صالح الآخرين الذين يزعجونه، أو يزعجهم.

أمّا الاعتراف أمام الكهنة، فالمعروف أنّ إهماله مشكلة يزداد تفاقمها يومًا فيومًا. فمعظم الناس، اليوم، لا يعنيهم الاعتراف، ولا يمارسونه تقريبًا. ولهذا أسباب عديدة لا نريد الدخول فيها الآن.

لقد كُتب كثيرًا عن ضرورة الاعتراف ومصالحته. ولربّما خير ما كتب، في الآونة الأخيرة، هو الرسالة التي وجّهها غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع (هزيم)، في مطلع الصوم الكبير (العام الـ1999)، إلى المؤمنين جميعًا في الكرسيّ الأنطاكيّ. ولا نريد، هنا، أن نكتب بحثًا جديدًا عن الاعتراف. لكن أن نذكّر أنفسنا وبعضنا بعضًا بالسبيل الذي كان المسيحيّون الأوائل يتّبعونه في سياق إخلاصهم للجدّة وتمتينها. فالمشكلة، اليوم، لا يختزلها، برأينا، إهمال الاعتراف، بل إنّ مؤمنين كثيرين لا تعنيهم مقوّمات الجدّة في حياة الكنيسة المجاهدة في زمان الغربة.

من قرأ العهد الجديد بعمق، يعرف أنّه يقدّم الحياة الجديدة كلاًّ متكاملاً. فالمسيحيّون الأوائل "كانوا يواظبون على تعليم الرسل وكسر الخبز والمشاركة والصلوات" (أعمال الرسل 2: 42). وهذه وظائف يدلّ تشابكها المحكم على أنّ الأوائل كانوا يحيون، معًا، في ضوء بركات الحياة الأبديّة التي كانت، عندهم، شأنًا يذاق "الآن وهنا". وهذا ما رسّخ، في الكنيسة، منذ ظهورها، أنّها جماعة مواهبيّة تؤمن بأنّ كلّ عضو فيها مسؤول عن حقّ الله وبرّه داخل الكنيسة وخارجها بآن.

أعلى ما يجب التذكير به، اليوم وغدًا، هو هذا الشأن الحيويّ. فالمؤمنون، الذين يختزلون الالتزام اختزالاً، أو يأخذون من الأسرار انتقاءً، إنّما يفعلون ما يفعلونه بسبب بُعد معظمهم عن معنى الشركة الجماعيّة الحقيقيّ. وفي إحساسنا، كلّ كلام على مصالحة الأسرار، المرجوّة مصالحتها، لن يجدي نفعًا كبيرًا في ظلّ هذا البعد المخزي. وما نريده، هنا، من الشركة الجماعيّة، هو التعاضد، أو التساند الأخويّ. وهذا يحمل لومًا عميقًا ليس للكهنة فحسب، بل لكلّ من ذاق حلاوة الربّ في حياة كنيسته، وبقي، بعيدًا، مكتفيًا بنفسه. كلّ أمر يفترض طرحه موضوعيّة. والحثّ على الاعتراف، في سياقنا، يجب ألاّ ينحصر بالحثّ على الاعتراف أمام الكهنة فحسب، بل أن يتضمّن أيضًا حثّ المؤمنين الواعين على أن يجنّدوا أنفسهم لضرب الخطيئة في مظاهرها كافّة، أي فيهم وفي الناس جميعًا. ألا يُحزن، مثلاً، أنّ معظم المؤمنين يعنيهم، اليوم، غير أمر في الأرض أكثر ممّا يعنيهم تكليفهم الأساس. تلهيهم الدنيا وما فيها، والخطيئة تسرح وتمرح في وسطهم! يجب أن نتكلّم على الاعتراف طبعًا. ولكن، في سياق حياة كنيسة كلّ أعضائها "يحمل بعضهم أثقال بعض" (غلاطية 6: 2). الكلام على الاعتراف، إن لم يلتزم هذا السياق، يؤكّد الخلل الكبير الذي يضربنا، وأعني حصر كلّ ما يُعمل تقريبًا، في الكنيسة، بالكهنة وحدهم. الكلام المجتزأ على الاعتراف يختزل مقوّمات النموّ، ويجعلنا نتحرّك ضمن العاديّ والمألوف. والكلام على الاعتراف، إلى جانب هذا وقبله كلّه، يفترض الإقرار بصحّة اللهب الذي أحدثه الاقتراب من الكأس المقدّسة، وتاليًا الدعوة إلى مواكبته لتستقيم حياة المؤمنين، ويعوا دورهم في حياة كنيسة "اكتسبها الله بدمه" (أعمال 20: 28). يجب أن نتكلّم طبعًا. ولكن، إذا تكلّمنا، بهدف تصحيح خلل ما، يجب أن نقصد ضرب الخطأ، أو الخطيئة الحقيقيّة التي تتخفّى وراءه. وما من خطيئة أفتك من الفرديّة التي تعشّش فينا، وتشوّه الكنيسة التي مات ربّها ليجمعها، ويوحّدها. وضربها هو الذي يحاكي الخير، الذي أراده أبرار التاريخ، ولا سيّما منه أنّ خلاص كلّ مؤمن يرتبط ارتباطًا محكمًا بمساهمته في خلاص الآخرين. وهذا عينه ما بيّنه غبطة البطريرك أغناطيوس، في رسالة أخرى لمناسبة الصوم الكبير (العام الـ2002)، بقوله: "فمن الواضح أنّ المسيح ليس لمسرّتك وحدك، ولكنّه لينتشر بك، لتكون له شاهدًا. إنّه لا يصير للعالم ولكلّ واحد في العالم، إلاّ بك". وأيضًا: "الموت، في حقيقته، هو أنّك لا تحتاج إلى الآخر، أو تتصرّف كأنّك لا تعرف حاجتك إليه".

حتّى يكمل القول، لا بدّ من التأكيد أنّ كنيستنا لم تضع، لقبول المناولة، فارقًا يُذكر بين الكهنة والعوامّ. فشعب الله كلّه، كهنة وعوامّ، تخصّه الدعوة التي تؤكّدها الخدمة: "تقدّموا". وهذا بيّنه القدّيس يوستنيانوس الشهيد، بقوله: إنّ مناولة المؤمنين تتمّ "بعد شكر الإمام وجواب الشعب". ما يعني أنّ وجود العوامّ، كما الكهنة، حتميّ لإقامة الذبيحة الإلهيّة. وهذا كلّه يمنعنا من أن نشترط على العوامّ ما لا نشترطه على الكهنة. ويمنعنا، تاليًا، من أن نطبّق على الخدمة، التي يرفعها شعب الله كلّه، نظام العدد. الخدمة واحدة "لا تتكرّر"، لأنّ حمل الله قدّم نفسه ذبيحة مرّة واحدة إلى الأبد (عبرانيّين 7: 27، 9: 12، 10: 10- 12). ولذلك نحن لا نحسب عدد المرّات التي يتقدّم فيها المؤمن إلى المناولة. عبارة "المناولة المتواترة"، مثلاً، لا نفهمها عدديًّا. بل نفهمها في السياق التراثيّ الذي أوجب أن تُقبل كلّ خدمة على أنّها أوّل خدمة وآخر خدمة. ما يعني أنّ كلّ مشاركة في الخدمة هو إعلان عن قبول خلاص الله، أو تجديد قبوله في حياتنا دائمًا. من هنا، كلّ كلام على التهيئة لا يجوز أن يخرج على ما أراده الله لخلاصنا. فالحياة كلّها تهيئة للدنوّ من المائدة "الموضوعة أمامنا". ولربّما هذا ما دفع المثلّث الرحمة الأب ألكسندر (شميمن) إلى أن يقترح أن يصلّي كلّ مؤمن جزءًا من صلاة "المطالبسي" (قبل المناولة)، في كلّ يوم، ليعبّر عن استعداده الدائم، أو تقديم حياته لمن قدّم حياته لنا أوّلاً. ومن هنا أيضًا، كلّ كلام يجمع بين الاعتراف وكلّ مناولة ساقط حكمًا. فالاعتراف جزء من سرّ قائم بذاته. بمعنى، مثلاً، إذا وقع أحد المؤمنين في زلّة يوم الإثنين، لا ينتظر إلى يوم الأحد ليبوء بها. فقد يموت قبل يوم الأحد. لكنّه يقصد أباه الروحيّ فورًا، ويعترف، أمامه، لإيمانه بأنّ الخطيئة لا تفصله عن شركة الجماعة فحسب، بل أيضًا عن المائدة الأخيرة التي الخدمة الإلهيّة صورة عنها.

لمّا ذكّر أبرار التيّار النهضويّ، في بدء انطلاقتهم، المؤمنين جميعًا بأنّ المسيحيّين الأوائل كانوا "يتناولون أربع مرّات في الأسبوع، ويشعرون بأنّ هذا قليل"، ما كان همّهم أن يعود الناس إلى المشاركة الصحيحة في الخدمة الإلهيّة فحسب، بل أن تصحّ الحياة الكنسيّة برمّتها. قضيّتهم ما كانت تهدف، حصرًا، إلى أن يزداد عدد المشتركين في الخدمة، وأن يقدِّمَ الكأسُ جسدًا ودمًا موجودَيْن فيه حقًّا. لكن أن يبتلع ربّ الكأس كلّ من يدنو منه "بخوف وإيمان ومحبّة". هم كانوا يعرفون الواقع ومصاعبه. ولذلك ما كان التفافهم حول كلمة الله، في كلّ لقاء من لقاءاتهم، وركونُهم إليها صباح مساء، إلاّ تأكيدًا صارخًا أنّ التوبة هي باب التقدّم إلى "عشاء الله" (كما يسمّيه ترتليانوس). ولا يشكّ من عرف فكرهم العميق وسلوكهم المبرور في أنّهم كانوا يمارسون الاعتراف أمام الكهنة "كتفًا على كتف" (صفنيا 3: 9)، أي بوعي ثابت أنّ عبادة الله عصبها الاتّحاد في الجهد.

الحثّ على التهيئة ضرورة وواجب. ولكنّ ما هو أكثر ضرورة وواجبًا أن "نحارب الغفلة عن الله وفتورنا في ما يختصّ به وبخلاصنا" (رسالة غبطته المذكورة ثانيًا). ونعمل، متكاتفين، على بثّ ارتضاء حياة الكنيسة الراضية وبرّها وشهادتها. هذا هو الخير الذي يبقينا جددًا، ويجعلنا نستحقّ العرس الذي كمّله ربّنا بدمه.

- مجلّة النّور
شارك!
Exit mobile version