الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

"كنت أرى الشيطان يسقط من السماء كالبرق"

            روى لوقا، في إنجيله، أنّ يسوع أوفد اثنين وسبعين تلميذًا إلى خدمة رسالته (10: 1- 16). وبهذه الرواية التي انفرد بها، أراد أن يبيّن أنّ رسالة يسوع لا تقتصر حصرًا على رسله الاثني عشر، وأنّ الخدمة، في فلسطين، صورة آنفة لتبشير الأمم الوثنيّة بعد الفصح.

            بعد خطبة معبّرة يحفظها لوقا نجد بعض أثارها في مواقع أخرى في العهد الجديد (متّى 9: 37- 10...؛ مرقس 6: 7- 13؛ يوحنّا 4: 34- 38؛ 1كورنثوس 9: 14؛...)، يكشف يسوع أنّه واحد ومرسَليه وفي آنٍ واحد مع أبيه. يقول لتلاميذه: "مَن سمع منكم، سمع منّي. ومَن أعرض عنكم، أعرض عنّي. ومَن أعرض عنّي، أعرض عن الذي أرسلني" (10: 16). ثمّ ينقلنا الإنجيليّ إلى خبر رجوع التلاميذ، الذين أذهلتهم نتيجة الإيفاد وقوّة اسم يسوع، ويسجّل تعبيرهم عن فرحهم: "يا ربّ، حتّى الشياطين تخضع لنا باسمك" (10: 17). ويحفظ، تاليًا، جواب الربّ لهم: "كنت أرى الشيطان يسقط من السماء كالبرق" (10: 18).

            مَن تجمعهم مع الكلمة علاقة ودّ، إذا قرأوا تعليق يسوع على فرح التلاميذ وإنجازهم، من المرجّح أن يقتحمهم، توًّا، قول أشعيا النبيّ: "كيف سقطت من السماء أيّتها الزُّهرة، ابن الصباح؟ كيف حُطّمت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟" (14: 12). وهذا، في الواقع، ما شعر به آباء الكنيسة الذي فسّروا سقوط نجمة الصباح (في اللاتينيّة الشائعة: لوسيفير) بأنّه يرمز إلى سقوط الشيطان. غير أنّ ما يجب أن نعرفه هو أنّ كلام النبيّ، في سياقه التاريخيّ، كان يختصّ بسقوط ملك بابل الذي كان يشغل مكانًا ساميًا في سماء الإمبراطوريّة، والذي سقوطه (أو الإطاحة به) كان مثل سقوط "الزُّهرة" من السماء.

            تختلف التوراة عمّا تركته آثار الشرق القديم باعتدالها في ما يختصّ بالقوى الشرّيرة التي تهاجم الإنسان. ومن الواضح أنّ إنسان التوراة اعتقد بوجود هذه القوى الشرّيرة، ورأى أنّها سبب شقائه وآلامه. هذا ما تقوله الكتب القديمة عن الكائنات والخلائق الكريهة التي تُحدّثنا عنها (إشعيا 13: 21، 34: 14)، والتي هي تشخيص للشيطان، وعزرائيل الذي كان، في البدء، إله القطعان لدى الساميّين والذي أُحدر إلى مستوى روح شرّير (لاويّين 16: 18). ويذكر سفر تثنية الاشتراع الأبالسة (32: 17؛ راجع أيضًا: مزمور 106: 37). ولا يخفى أنّ العهد القديم، في نصوصه التي دوّنت بعد المنفى، وصف الشيطان بأنّه هو المشتكي الرئيس في المحكمة السماويّة، وعندما يقوم بهذا الدور، هو يقوم به في حضرة الله وملائكته (أيّوب 1: 6- 2: 7؛ زكريّا 3: 1- 5).

            هذا العدوّ، الذي جاء يسوع من أجل أن يقضي عليه ويحرّر الناس من سلطته، يراه "يسقط من السماء" (حيث حدّد التقليد الشعبيّ موضعه). لا يمكننا أن ندّعي العلم إن كان يسوع، في هذا القول، قد فكّر في حدث قديم، أي ما جاء في سفر إشعيا مثلاً، ولا إن كان ما تكلّم عليه هو "رؤيا" حقيقيّة. غير أنّ ما يمكننا ترجيحه، أو الاعتقاد به، هو أنّه، بقوله، أراد أن يدلّ على مفعول خدمته الذي حقّقه مبعوثوه.

            ذكرنا أنّ يسوع كان قد أرسل اثنين وسبعين تلميذًا إلى الكرازة. ورجعوا بإثارة عجيبة (17). وهذا من العلامات المؤكّدة على أنّه "قد اقترب ملكوت الله" (9)، أي أنّ ملكوت الله قد قهر الشيطان ومملكته وأسقطه، بسرعة البرق، من عرشه (سقوط الشيطان تأكيد أنّ ملكه قد تزعزع، بل انتهى). ويعرف العارفون أنّ ربّانيّين كثيرين كانوا يعتقدون بأنّ المسيح، في مجيئه في آخر الزمان، سيقضي على الشيطان. المهمّة، التي أتمّها مبعوثو يسوع بنجاح ظاهر، تؤكّد أنّ هذا الرجل، الذي أمامهم، هو المسيح المنتظر. وهذا ما يوحي به يوحنّا الإنجيليّ في حفظه كلامًا يشبه ما نقلناه هنا، وإن كان يدلّ، في سياقه، على آلام يسوع الوشيكة التي توّجت خدمته، وقضت نهائيًّا على إبليس وملائكته. نقرأ: "الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (14: 31).

            ثمّ يتابع الربّ كلامه: "وها قد أوتيتم سلطانًا تدوسون به الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدوّ، ولن يضرّكم شيء" (19؛ قد تكون هذه الصورة استعارة من المزمور الـ91: 13)، وهذه دعوة دائمة إلى الثقة بقوّة الله التي تطرد الخوف خارجًا. في رسالة بولس إلى مسيحيّي رومية، نجد تعبيرًا مشابهًا، ولو أنّه لا يذكّر بالمزمور الـ91، بل بقصّة عصيان آدم الجدّ الأوّل (تكوين 3: 15). نقرأ: "إنّ إله السلام سيسحق الشيطان وشيكًا تحت أقدامكم" (16: 20). في الختام، يأمر يسوع تلاميذه بألاّ يبتهجوا بإنجازاتهم، لكن "بأنّ أسماءكم مكتوبة في السموات" (20). فمَن كُتِبَ اسمه في السماء،نال عطيّة الله، وهي الحياة الأبديّة. وما يجب ألاّ يغفل عن ذهننا، في هذا السياق، هو الموازاة القائمة بين قول يسوع عن سقوط الشيطان وقوله عن ارتفاع التلاميذ. وذلك بأنّ سقوط الشيطان "من السماء" يدلّ على أنّ سلطته زالت، وأنّ كتابة أسماء التلاميذ "في السموات" تدلّ على أنّ كنيسة المسيح هي التي ملكت فيها.

            ما من شكّ فيه أنّ رسالة يسوع يكمن معناها في أنّها نتيجة إرسال. وهذه عينها دعوته إلينا اليوم. فالمسيحيّون الحقيقيّون هم الذين، فيما يعتقدون أنّ المسيح أقوى من كلّ شيء (مثلاً الشيطان وعبّاده في هذه الأيّام)، يدركون أنّ مسؤوليّتهم أن يبشّروا بقوّته في عالم أخذ يستغبي نفسه، ويعدو وراء كلّ وهم. وهذه المسؤوليّة، أيًّا كانت صعوبتها، يحقّقها فينا أن نهرب من كلّ إهمال وضجر واستقالة باتّكالنا على الله الغلاّب في تلاميذه الأوّلين وقدّيسيه على مرّ الأجيال، وبثقة كلّيّة بأنّه ما زال، حاضرًا معنا يعمل، يدعونا إلى المهمّة عينها. هذا، وحده، يقينا من كلّ تغرّب وشؤم قد يجعلاننا ننسى أنّنا نعيش، منذ حلول الروح في العنصرة، قوّة الملكوت الذي جاء يسوع يبنيه وسط البشر، وأنّه أعدّ لنا "منزلاً"، لنقيم فيه فيما نتمّم مشيئته، ونثمر.

شارك!
Exit mobile version