الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

كرامة المعمَّدين

من أجمل ما في خدمة المعموديّة دعاء أن يكون المعمَّد "عضوًا مكرَّمًا" في كنيسة الله. وهذا، الذي يتلوه مقيم السرّ (الأسقف أو مَنْ ينتدبه)، يمكن اعتباره اختصارًا لما يهدف إليه قبول إنسان جديد في عضويّة الكنيسة وعنوان حياته وجماعته في غير حال (قابل مع: رومية 12: 10؛ 1كورنثوس 4: 10).

أن يكون المعمَّد عضوًا مكرَّمًا في الكنيسة، لهو أن يعي أبعاد التزامه حياة جماعته أبدًا. وهذا الوعي، الذي لا ينفصل عن نِعَمِ الله (تقول الخدمة: "اجعله (يا الله)... عضوًا مكرَّمًا...")، يطلب أن يدعمه كلّ عضو في الجماعة أيضًا. بمعنى أنّ حياة الكنيسة هي حياة مشتركة، كلّ مَنْ فيها مسؤول، في آن، عن نفسه والآخرين، أيًّا كانوا وكان موقعهم. ألم نقرأ كلام بولس: "فإذا تألّم عضو تألّمت معه سائر الأعضاء، وإن أُكرم عضو سُرَّت معه سائر الأعضاء" (1كورنثوس 12: 26)؟ ويمكننا، من دون أيّ جهد، أن نصغي، في هذا القول، إلى نغمة عماديّة، أي عائليّة. فشعب الله واحد إن في الألم أو في السرور.

لا ينفصل عن نِعَمِ الله، قلنا. ويعني أنّ عمق الكرامة يكمن في أنّ المعمَّد يحتضنه الروح القدس الذي لا ينضب مَعين عطاياه بتاتًا. فالكرامة، في كلام مألوف، لا ينالها الإنسان بجهده وحده، بل الروح يعطيها بسخاء مجّانًا. وأنت، عضوًا أو مجموعة، إنّما تعتنق تكريمه لإيمانك بأنّ الروح يحتضنه بوفرة إنعاماته. ولا يمنعك من تكريمه أن تراه شخصًا لا نفع فيه، أو هذا ما يجب. فهذا، إن حدث، لا يوافق إيماننا بفعل الروح الذي كرّمنا جميعًا. معظمنا قرأ ما قاله الرسول في تعليمه عن المواهب، أي: "إنّ الأعضاء التي تحسب أضعف الأعضاء في الجسد هي ما كان أشدّها ضرورة، والتي نحسبها أخسَّها في الجسد هي ما نخصّه بمزيد من التكريم. ولكنّ الله نظّم الجسد تنظيمًا، فجعل مزيدًا من الكرامة لذلك الذي نَقَصَت فيه الكرامة، لئلاّ يقع في الجسد شقاق، بل لتهتمّ الأعضاء بعضها ببعض اهتمامًا واحدًا" (1كورنثوس 12: 22- 25). وإن كان ظاهرًا أنّ دافع بولس إلى هذا القول خوفُهُ من لعنة الشقاق، الذي هو في تراثنا "شرّ الشرور"، فهذا معنى من معانيه أن نهمل الإخوة، ولا سيّما الضعفاء منهم. فالرسول، الذي يعرف أنّ أعضاء الكنيسة قد يسحرهم مَنْ كان التزامه نارًا، أوصى بأن يهتمّ الإخوة بالجميع من دون أن يستثني مَنْ يبدو ضعيفًا وخسيسًا. يعرف بولس، أجل يعرف، ويريدنا أن نعرف، أنّ الإنسان، الذي يبدو اليوم تافهًا، قد تعينه محبّة إخوته له ورعايتهم إيّاه على أن يغدو التزامه نارًا على نار. فالكنيسة هي، دائمًا، كنيسة المحبّة التي طلب هو نفسه أن نغلّبها لا سيّما إن غمّنا ضعفُ أخٍ (2كورنثوس 2: 8). ولا يفوت مَنْ قرأ كلّ ما سطّره عن المواهب، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (الإصحاحات الـ12- 14)، أنّه وضع، في الإصحاح الثالث عشر، نشيدًا عن المحبّة أراد فيه أن يثبّت استقرار تعليمه عن المواهب وفعلها أبدًا.
هذا كلّه يؤكّد أنّ الكنيسة كلّها إنّما هي جماعة مكرَّمين. قول الرسول في الإصحاحات المذكورة: لا أحد يقدر على أن يقول لآخر (أي: لأيّ آخر): "لا حاجة بي إليك"، يبيّن كرامة الكلّ بأجلى بيان.

من دون أمثلة!، هل تراني أعترض على مؤمنين باتوا يحصرون التكريم بِمَنْ هم أهل موقع في الجماعة؟ لا، ونعم! الـ"لا" يفترضها أنّ من صميم إرثنا أن يكرَّم، مثلاً، "الشيوخ الذين يحسنون الرعاية" (1تيموثاوس 5: 17)، أي "الذين يسهرون على نفوسنا سهر مَنْ يحاسب عليها" (عبرانيّين 13: 17). وأمّا الـ"نعم"، فلكون هذا الحصر يهمل ما تسلّمناه إرثًا ملزمًا. وهذه يجب أن نضيف إليها خوفًا من أن يندفع الناس إلى أن يغرقوا في حصرهم التكريم. نحن مأمورون بطاعة إرثنا العماديّ الذي يريدنا أن نكرِّم الكلّ تكريمًا واحدًا دائمًا. أيّ انتقاص لهذا الأمر يفقدنا وعي "أنّنا جميعًا إخوة" (متّى 23: 8). أحيانًا، بل في معظم الأحيان، يكوّن الشائع ثقافة الناس. وهذا، إن لم يتوافق مع أناقة المسلَّمات وبرّها، خطرٌ كلّه. وشأننا أن نخدم الحقّ الذي يستحقّ الكرامة في كلّ مَنْ كرّمهم هو نفسه، وعظّمهم هو نفسه.

لا أريد أن أجرح قارئًا ورعًا. ولا أحسب أنّني أفعل إن سألت نفسي (وَمَنْ يرغب في أن يسأل نفسه): ماذا سأجيب الله إن سألني عن الإخوة الذين أهملهم عينًا بعين؟ ماذا لو سألني: أراك تنحني أمام الأيقونات، وتقبّلها بورع، فَلِمَ تميّز بين الناس، الذين صنعتُهم على صورتي، تفضّل بعضًا، وتطأ آخرين كما لو أنّهم حشرة؟ هل تظنّ أنّ ثمّة برًّا تفعله يمحو خطايا ترتكبها؟ هل تعتقد أنّني أرى ما تريدني أن أراه فقط؟ أعرف أنّ لك تبريراتك لغير خطأ تفعله، ولكن ألم تقرأ أنّني قلت: "هلمّ نتحاجج" (أشعيا 1: 18)؟ ألا تعني هذه أنّ رأيي فيك قد يختلف عن رأيك في نفسك؟ ماذا لو كان رأيي في احتقارك سواك، مثلاً، أنّك ترتاح إلى حضن الشرّ تدثّر نفسك بوهم أنّك ضامن خلاصي أبديًّا؟ألم تقرأ قول رسولي: "بل لا أدين نفسي، فضميري لا يؤنّبني بشيء، على أنّني لست مبرَّرًا لذلك، فديّاني هو الربّ" (1كورنثوس 4: 4)؟ وَمَنْ أنت، حتّى لا تتمثّل به؟ متى ستفهم أنّك، إن لم تكرِّم الإخوة جميعًا ولا سيّما التافهين منهم، فسينتظرك خزي وراء الباب؟ متى ستعي أنّني لا أُدخل مجدي سوى الذين حافظوا على رسم المعموديّة؟

إن قالت خدمة سرّ المعموديّة إنّ كلّ عضو مكرَّم في كنيسة الله، يعني أنّ كلّ عضو كرامته من كرامة الله. هذا ليس شرط قبول المعموديّة وإجرائها فحسب، بل، أيضًا، شرط "بقائنا فيها".

- مجلّة النّور، العدد الثامن، ٢٠١١
شارك!
Exit mobile version