كان ورفيقه يمشيان على طريق عمّاوس (لوقا 24: 13- 35). وعمّاوس ربّما تكون عَمْواس التي تبعد نحو 30 كلم إلى غرب أورشليم (النصوص، التي بين يدينا، تحدّد موقع عمّاوس من أورشليم أنّها "تبعد نحو ستّين غلوة" أي 12 كلم. ولكنّ مخطوطات أخرى رجّحت عَمْواس بقولها: "مئة وستّين غلوة"). وفيما العهد الجديد لا يظهر اسم قلاوبا (أو كليوباس، كما في لفظ آخر) في سوى هذه الحادثة، تقدّمه ليتورجيا كنيستنا بين الرسل السبعين بإظهار اسمه أوّلاً، في يوم عيدهم، في الرابع من كانون الثاني.
ماذا كان قلاوبا ورفيقه يفعلان؟ يقول لوقا الإنجيليّ إنّهما كانا "يتحدّثان ويتجادلان بجميع الأمور التي جرت". ثمّ تراءى لهما يسوع. بعد قيامته، يظهر الربّ فجأةً، وبطرائق سرّيّة. "ودنا منهما، وأخذ يسير معهما". لم يكشف لهما نفسه توًّا، بل سألهما: "ما هذا الكلام الذي يدور بينكما وأنتما سائران؟". أبديا كآبةً. وأجابه قلاوبا: "أأنت وحدك نازل في أورشليم (أي ظنّه ممَّن حجّوا إلى أورشليم في عيد الفصح)، ولا تعلم الأمور التي جرت فيها هذه الأيّام؟". سألهما من جديد: "وما هي؟". أجاباه عمّا جرى ليسوع، وكيف حكم عليه بالموت. وذكرا خيبة رجاء الجماعة أنّه "هو الذي سيفدي إسرائيل". ثمّ أخبراه أنّ ثمّة نسوةً من الجماعة ذهبن باكرًا إلى القبر، فلم يجدن جثمانه، وقلن "إنّهنّ أبصرن، في رؤية، ملائكة قالوا إنّه حيّ. فذهب بعض أصحابنا إلى القبر، فوجدوا الحال على ما قالت النسوة. أمّا هو، فلم يروه".
هذا المشهد يبيّن لنا تدخّل الربّ الحاسم في إبراز قلق جماعته أوّلاً. فالجماعة قد يقلق بعض أعضائها، أو معظم أعضائها، وقد ينهار بعضهم (أو معظمهم أيضًا). إنّه قلاوبا، بل أنا نفسي، بل نحن بمعظمنا. والربّ هنا، ليدفعنا إلى أن نقرّ بما بنا، ثمّ يردّ علينا، ويردّنا. كان التلميذان، على طريق عمّاوس، كلٌّ منهما راجعًا إلى بيته. انتهى كلّ شيء عندهما! واستوقفهما الربّ. ذكر سيرهما، كما لو أنّه يعترض على أنّهما تركا جماعة الرسل. لم يقل لهما: "إلى أين أنتما تسيران في طريق بعيدة عن إخوتكم؟". ولكنّنا يجب أن نسمعه يقولها هي هي! واكتشف أنّ ما أخبرته النسوة لم يكن يقينًا فيهما. مات المعلّم. هذا كان يقينهما. ولكنّ سحر هذا "الغريب" كان أقوى من أن يجعلهما يكملان مسعاهما. الجماعة يجب ألاّ يفرّق بينها أيّ أمر. وكان على يسوع أن يعيد كلاًّ من هذين المكتئبين إلى رشده الأخويّ! وابتدأ يفعل.
أوّل ما فعله أنّه وبّخهما على كونهما "قليلَيْ الفهم وبطيئَيْ القلب عن الإيمان بكلّ ما تكلّم به الأنبياء". فالمسيح كان عليه أن يعاني الآلام، فيدخل مجده. هذا يشكّل خارطة المسيرة التي كان على قلاوبا ورفيقه أن يسلكاها. كان طريقهما تقهقرًا. غاب عنهما أنّ الكتب تكلّمت على آلامه. فوبّخهما، أي أعاد، بما تلفّظه، إصلاحهما (أنظر: لوقا 9: 22، 17: 25). ثمّ "بدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسّر لهما، في جميع الكتب، ما يختصّ به". الكتب كلّها تختصّ به. هذه قاعدة القراءة الجديدة التي رسمها الربّ هنا. ولمّا أنهى وعظهما، "تظاهر بأنّه ماضٍ إلى مكان أبعد". ما هو هذا المكان الأبعد؟ إن كان يسوع قد اجتذب قلاوبا ورفيقه إلى ما يختصّ به، فما هو الأبعد؟ فألحّا عليه أن يقبل ضيافتهما. قالا: "امكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار". هذا يرجّح أنّهما وصلا إلى منزل أحدهما. ارتضى يسوع. لكنّه، في المنزل، أظهر لهما أنّه المضيف! وعندما "أخذ الخبز وبارك ثمّ كسر وناولههما، انفتحت أعينهما، وعرفاه، وغاب هو عنهما". بعد الكتب، كشف لهما الربّ نفسَهُ بكسره الخبز. هذه هي مسيرة الإفخارستيّا: كلمة وقرابين. كلمة تردّنا، وتردّ عنّا كلّ خيبة وتقهقر. وخبز مكسور يردّ عنّا كلّ انكسار وانفصال عن الإخوة. لقد كسرهما خبر موت الربّ. وبكسره الخبز وتقديمه، جبر يسوع ضعفهما، وأحيا فهمهما وقلبيهما إلى الإيمان به. فقال أحدهما للآخر: "أما كانت قلوبنا متّقدةً في صدورنا، حين كان يحدّثنا في الطريق، ويشرح لنا الكتب؟". هذا هو المكان الأبعد الذي أرادهما أن يصلا إلى اكتماله: أن يعرفاه، حيًّا، في مسيرة الكلمة إلى قرابينه!
ثمّ أخذ الإنجيليّ يكشف أبعاد ما جرى. قال: "وقاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم. فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين، وكانوا يقولون إنّ الربّ قد قام وتراءى لسمعان". فرويا، هما أيضًا، ما جرى معهما "في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز". ماذا أراد لوقا من هذا القول؟ ماذا كشف؟ كشف أنّ كلّ الذين كسرهم (أو يكسرهم) موت الربّ يسوع وقيامته، أعادهم (أو يعيدهم) "كسر الخبز" إلى وحدة الجماعة. "رجعا إلى أورشليم"، أي إلى الجماعة الرسوليّة. وكشف أنّ الإيمان يكتمل بالشهادة ليسوع الحيّ. هنا، الجماعة الملتقية لا تتكلّم على سوى يسوع حيًّا. وإذا أخذنا شهادة تلميذي عمّاوس، يجب أن نضيف: تتكلّم عليه محييًا أيضًا. من هنا، من أورشليم سيغزو العالم خبر جديد: المسيح قام.
لقد التصق اسم قلاوبا بخبر الفصح. هذا يكفي، ليشهد لنا بأنّ لإلهنا الحيّ ظهورًا لكلّ منّا يقرّره في الأوان الموافق. يبقى أن نتكلّم على الأمور التي أجراها. هذا يعلنه بيننا. حضوره يكشفه ذكرُهُ! ومتى أظهر نفسه، فلنمشِ معه. ولنقل له ما شئنا. ولنكشف له قلوبنا. ولنعطه انتباهنا كلّه. إنّه القادر على أن يجدّدنا، ويلهبنا، ويصل بنا إلى بعيده الأخّاذ! وإذا غاب عنّا، فلنملأ الدنيا بإعلامها بما جرى. ولنبدأ بِمَنْ يحيون معنا في شركة واحدة. فيسوع حيّ في جماعة الإخوة دائمًا. هذا ما يقوله قلاوبا (ورفيقه) لنا!