6يوليو

قائد المئة

الناس كلّهم، مَنْ يعرفونه منهم وَمَنْ لا يعرفونه، غدوا يتناقلون أخباره. وهنا، في كفرناحوم، المدينة القائمة على شمال شاطئ بحيرة طبريّة الغربيّ (وهي "تلّ حوم"، اليوم) نحن لا نعرفه فحسب، بل منذ أن ترك الناصرة وسكن بيننا (متّى 4: 13)، بتنا نعتبره واحدًا منّا. وأنا، على أنّني وثنيّ، ضابط وثنيّ، أعتبر نفسي قريبًا إليه في ودّه وفي تقدير كلّ ما يفعله. كثيرون تكلّموا على قدرته على الشفاء (متّى 4: 23- 25). لكنّني لم أقصده، قَبْلاً، بأمر. أمّا اليوم، فأريد أن أفعل. فتاي، الذي يخدمني في بيتي، ملقى على سريره، "يعذّب بعذاب شديد". لم أسمع أنّ يسوع، جارنا، قد شفى غريبًا من قَبْل. لكنّني لن أمنع نفسي من اللجوء إليه. إن قبلني، يكون خيرًا لي ولفتاي. وإن لم يقبل، فسأعذره، وأتفهّمه (متّى 8: 5- 13)!

                أن تعرف، ضابطًا على فصيلة مؤلّفة من مئة جنديّ، مكان إقامة شخص ما، ليس بأمر صعب. وكيف إن كان مكان إقامته معروفًا، وتاليًا أخباره تمشي أمامك وعلى جنباتك! فاليوم، مثلاً، وصل إلينا أنّه اصطحب تلاميذه إلى الجبل، وألقى عليهم بعضًا من تعليمه. تلاميذه، بعد نزولهم، أخبروا جموع الناس (متّى 5- 7). وكان ما أخبروا به ساحرًا، جنونيًّا، لم يسمع به أحدٌ من قَبْلُ! أنا سمعتُ الناس يميّزون بين ما قاله هو، ويقوله كتبتهم. واعترفوا بأنّه "يعلّم كَمَنْ له سلطان". لا أعرف متى سيمنّ عليَّ بظهوره. لكنّ ما أعرفه أنّني، الآن، على طرقات كفرناحوم، يعتمرني شعور، لا يمكنني تفسيره، بأنّه لن يتأخّر. قلبي ينبئني بذلك! كلّ الذين عرفوه، عن قرب، قالوا إنّه يأتي في الوقت المناسب دائمًا، أي من حيث يُنتظر! يبدو صديق حاجات الناس. يعرفها كلّها، مثلهم. ويريد أن يتخلّص منها كلّها، مثلهم. طبيب! لا، لعمري، إنّه أعظم من أيّ طبيب. أطباء الأرض يحاولون أن يعالجوا الناس. يفلحون مرّاتٍ، ويفشلون مرّاتٍ أخرى. أمّا هو، فيعالجهم بكلمة، بلمسة، أي بكلمة أو بلمسة فقط. ولم يُخبر أحد بأنّه قد صعب عليه أيّ مرض. ينجح دائمَا! سلطانه على المرض لم يعرفه أهل الأرض وأطبّاؤهم قَبْلاً. سلطانه عجيب. معضلتي الوحيدة أنّني غريب عن ملّته. وهذا، كما عذاب فتاي، سأترك له أن يقرّر فيه.

                ألم أقل إنّ قلبي ينبئني بأنّه لن يتأخّر؟ ها هو، الآن، أمامي. أراه ينظر إليَّ كما لو أنّه يعرف ما جئتُ من أجله. لا يليق بي أن أتركه يمشي نحوي. ينبغي لي أن أُسرع أنا إليه، وأدنو منه، وأقول له ما شعرتُ بأنّه يعرفه. لن أحرجه بطلب أن يشفي لي فتاي. فقط سأروي له عن عذابه. وليفعل هو ما يراه مناسبًا! "يا ربّ، إنّ فتاي ملقى في البيت مخلّعًا يعذّب بعذاب شديد". قال يسوع: "أنا آتي، وأشفيه".

                سمعتُ ما قاله! سمعتُهُ جيّدًا! هدم لي سياج ظنّي بأنّني غريب! وفضلاً عن ذلك، طلب زيارتي! ما يقوله الناس عنه، كلّه صحيح! هل أراد أن يرحم تعب انتظاري على الطريق؟ لا بدّ من أنّه أراد! يكفيني ما سمعتُهُ! أراحني! أنا أثق بأنّه قادر على أن يفعل، من مكانه، كلّ ما يريده. أنا أؤمن بقدرة كلمته على فعل أيّ شيء. أفرحني. ويجب أن يفرح به سواي. هذا الرجل يجب أن يبقى منطلقًا إلى أوجاع الناس وعذاباتهم. لن أسمح لنفسي بأن أحتجزه، وإن قليلاً. أساسًا، أنا لا أستحقّ أن يزورني. وهذا ما سأقوله له علنًا: "يا ربّ، لستُ مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي، ولكن قل كلمةً لا غير، فيبرأ فتاي. فإنّني أنا إنسان تحت سلطان ولي جند تحت يدي، أقول لهذا اذهب فيذهب، ولآخر ائتِ فيأتي، ولعبدي اعمل هذا فيعمل".

                لم أكن أعرف أنّ كلماتي ستدفعه إلى أن يُظهر تعجّبه علنًا. يا لعجبي! أنا لم أكن أمالئه، ولم أُرد أن أبرز له مكانتي. وهل يمكنني أمامه أن أفعل؟ قلتُ إيماني، إيماني بكلمته التي ردّدها تلاميذه! نسجتُ ما قلتُهُ ممّا تعلّمتُهُ في الدنيا، وأمارسه في الدنيا. وفهمني؟ وأكرمني. ربّما شعر بأنّني أؤمن، إيمانًا مطلقًا، بأنّ سلطانه يستمدّه من فوق، من إله في أعلى السماوات تربطه به علاقة خاصّة (متّى 6: 9). إنّه أدرى! ربّما أدرك أنّ كلمته "الجبليّة" قد أثّرت فيّ. إنّه أدرى! ربّما اعتبرني واحدًا من تلاميذه الجدد. إنّه أدرى! أنا لا استطيع أن أفرض نفسي عليه. لكن، إن كان قد اعتبرني واحدًا مِمَّنْ يؤمنون به، فهذا أمر يرغب فيه قلبي وعقلي ونفسي وكياني كلّه. لن أنسى، يومًا، تعجّبه والكلمات التي قالها إلى الذين كانوا يتبعونه على ما سمعه منّي. قال لهم: "الحقّ أقول لكم: إنّي لم أجد إيمانًا بمقدار هذا ولا في إسرائيل. أقول لكم: إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات. وأمّا بنو الملكوت، فيلقون في الظلمة البرّانيّة. هناك يكون البكاء وصريف الأسنان". ثمّ نظر إليَّ، وقال لي: "اذهب، وليكن لك كما آمنت". ولمّا تركتُهُ، علمتُ أنّ "فتاي شفي في تلك الساعة" التي صرفني فيها.

                هذه كانت وقائع ثمرة انتظاري له ورغبتي فيه. لم أكن أعرف أنّه سيتكرّم على غريب مثلي. كانت مفاجأة! وهل أحلى من هذه المفاجأة أبني حياتي عليها؟ فأنا، اليوم، لم أبقَ أعرف عنه، بل خبرتُهُ شخصيًّا. وهذا أمر لن ينزعه أحد منّي. أنا عدتُ قريبًا إليه فعلاً. كنتُ أشعر بأنّني قريب. وبات قربي حدثًا واقعيًّا لا علاقة له بشركة مدينة، بل بشركة أخرى! لقد قرأ ما في قلبي، وفهم أنّني له. أنا له! أروي ما أنا عليه طاعةً لكلمته. أبواب المشارق والمغارب فُتحت، ويجب أن يعرف العالم أنّها قد فُتحت. سأعيش حياتي أروي ما فعله معي. هذه طاعة توافق الكلمة التي تجاوزت عدم استحقاقي، وأدخلته بيتي!


(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content