من دون مقدّمات، كلّ مَنْ يتعدّى على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة يتعدّى على كنيسته التي الحركة منها.
بلى، يمكنني أن أخمّن أنّ مَنْ يستقبحون تيّارنا النهضويّ، ويلعنون الساعة التي قام فيها، إن وقع نظرهم على هذه المقدّمة، فقد تتعب خدودُهم ورئاتُهم من كثرة الضحك. ولكنّني، فيما أرجو لِمَنْ قد يضحكون كثيرًا أن يرتقوا إلى جدّيّة تعاطي البحث في أمور الحقّ، أدفع هذه السطور إلى أعين تكره الضلال كما تكره العمى.
لقد ورثنا، نحن الأرثوذكسيّين، أن نعتبر ضالاًّ كلّ مَنْ يخالف "الإيمان الذي سلِّم إلى القدّيسين تامًّا" (يهوذا 3). وعلى حبّنا العميق لاستقامة العقيدة، ترانا، من حيث ندري أو لا ندري، لا نعطي بمعظمنا وجوهَ عقيدتِنا كلَّها حماسَنا عينَهُ. يُقلقنا، حتّى الموت، أن يُعتدى، مثلاً، على الله ثالوثًا وطبيعتَي الابن المتجسّد ومشيئتَيْه وانبثاق الروح من الآب ونقاوة مريم والدة الإله والأيقونة ورفات القدّيسين وما إليها (هذا إذا لم نذكر أمورًا لم نثبّتها عقائديًّا!). ولكنّنا، في الآن عينه، ترانا قلّما نَقلق إن اعتُدي على الكنيسة، شعب الله. معظم شعبنا، للأسف الشديد، لا يُحسنون قراءة أنّ الآباء القدّيسين، الذين دافعوا عن الإيمان القويم في المجامع المسكونيّة، أخذهم، لا سيّما في المجمعَيْن الأوّل والثاني، الكلام على الله آبًا وابنًا وروحًا قدسًا بتفصيلٍ ظاهرٍ، ثمّ على الكنيسة "واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة". نردّد هذا الدستور في خدمنا عمومًا. نحفظه جميعنا عن ظهر قلب. نعلّمه أطفالنا منذ نعومة أظفارهم. ولكن، من دون أن نتبيّن، لنبيّن، أنّ آباءنا ساقوا كلامهم، ليصلوا إلى أنّ الكنيسةَ هي مقرُّ الله.
لست أرى ما يلزمني أن أستعرض بعض العيوب القهّارة التي سعت إلى تشويه الكنيسة على مرّ التاريخ. وهل يعوزني؟ فالعيوب تتبعنا في حاضرنا. تتبعنا كما لو أنّها ظلّنا. يكفي أن نلتفت يمينًا أو شمالاً، وراءنا أو ننظر جيّدًا أمامنا، لنراها تمشي في غير جهة. كلّ عيب مقلق، ما من شكّ في ذلك. ويجب أن يُقلقنا جميعَنا أيُّ عيب يظهر. ولكن، إلى متى سيبقى الأرثوذكسيّون، الذين يعنيهم الدفاعُ عن نقاوة العقيدة القويمة، لا يعني معظمَهم أن تُنتهك كرامة المؤمنين في كنيستهم؟ إلى متى سيبقون يعتبرون أنّ هذا الانتهاك يجري كما لو أنّه في كوكب آخر؟ نردّد أنّ "مَنْ يحفظ الإيمان، عندنا، هو شعب الله". نردّده بفخر. ونرى أنّ إخوةً لنا يُسعى إلى بترهم من جسد المسيح، نرى كما لو أنّنا لا نرى. لِمَ كثيرون منّا مخدّرون حيث يجب أن يكونوا في أقصى درجات الوعي؟ أنا الصغير يمكنني أن أخمّن جوابًا عن هذا السؤال. ومن تخميني، (إذا تركتُ الذين أبعدوا أنفسهم عن شركة الإخوة)، أنّ ثمّة بيننا مَنْ يعتبرون الكنيسة بعض أعضائها (الأساقفة والكهنة والرهبان مثلاً)، وما دام هؤلاء بألف خير، فكنيستهم بألف خير. ومن تخميني، أيضًا، أنّ ثمة بعضًا من هؤلاء يعتبرون الكنيسة بناءً حجريًّا، وما دامت الكنائس حجارتها مرتفعة عاليًا، فكنيستهم بألف خير. ومنه، أيضًا وأيضًا، أنّ الكنيسة صلوات تقام، وما دامت الصلوات تقام، فكنيستهم قائمة بألف خير. ومن تخميني تخمينات عدّة أخرى، يخجلني ذكرها.
صدّرت هذه السطور بقولي إنّ التعدّي على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هو تعدٍّ على الكنيسة التي الحركة منها. وأعرف، ويعرف كثيرون آخرون، أنّ تيّارنا النهضويّ، منذ انطلاقته في الـ16 من آذار العام الـ1942، رمي أهله بألف تهمة وتهمة، أي اعتُدِيَ عليهم كثيرًا. قيل عنهم، مثلاً، إنّهم حزب في الكنيسة (وشُبِّهوا بأحد الأحزاب المعروفة في بلادنا). ويقال عنهم، دائمًا، إنّهم يعتبرون أنفسهم أنّ الله خلقهم وكسر القالب، إنّهم متفلسفون، يدّعون احتكار المعرفة، يزايدون في أمانتهم للحقّ، يتطاولون، لا يطيعون الرؤساء، منغلقون، يقولون ولا يفعلون... ونسمع، اليوم، أنّ دورهم قد انتهى! وللمفارقة أنّ مَنْ يؤمنون بكنيستهم لا يُجمعون جميعُهم على أنّ هذه التهم المغرضة هي تعدٍّ على عمل الروح القدس، أي على شعبه المؤمن. بعضنا يغريه أن يسمع الانتقاد، وإن مُغرِضًا. يدغدغه. يطربه. هذا عيب الشعوب المتخلِّفة!
لا أريد أن أكرّر ما خمّنته، بل أن نذكر، لا سيّما نحن المعتدى عليهم، من دون أن ندين أحدًا، أنّ ثمّة، في الأرض، دائمًا مَنْ يغيظه أن يُحَبّ الله. هذا، الذي يبيّن أنّ دورنا لم ينتهِ، أمر يجرح، أعرف. لا أعتقد أنّ محبًّا حقيقيًّا يُشرِّع له أمرٌ أن ينسى مصدره. نحن لا نأتي من الأرض، من ظلم الأرض، بل من إلهٍ مات مصلوبًا، إلهٍ لم يَعِدْنا بسوى أنّه سيكون لنا ضيقٌ في العالم. التحدّي، الموضوع أمامنا أبدًا، أن نبقى نعرف أين علينا أن نضع ثقتنا. لا تستطيع جماعة، اشتُريت بدم، أن تضع رجاءها إلاّ على الله الغالب وحده. لكلّ إنسان سرُّهُ. وسرّ المحبّين أنّهم يدركون أنّ الغلبة هي لله دائمًا. مَنْ مات عن شعبه، لا يمكن أن يفرّط فيهم. إن نام العالم كلّه على أرائك مخدّرة، يبقى لنا جبّار مستيقظ نعرف أنّه قادر على أن يحوّل النار إلى ندًى والبرّيّة إلى بستان.
قلت، منذ أيّام، لأحد الإخوة: "عذّبني أن أذكر فلانًا في القدّاس الإلهيّ؟". أسف علنًا، ثمّ سألني توضيحًا. أجبته بألم ظاهر: "لا يوافق تراثنا أن نذكر الذين يشوّهون إيماننا". وقصدي الذين يعتدون على شعب الله. لقد تردّدت كثيرًا قبل أن أدوّن هذا الحوار. خفت أن أعثر أخًا ضعيفًا. وإذ دوّنته بدموعي، فليصدّق القارئ، أختم هذه المساهمة التي لم أتصوَّر يومًا بأنّني سأكتبها. أختمها، فيما أرجو الله أن يرفع أقدام المتجبِّرين عن الإخوة الذين يجاهدون بيننا. ليس الإخوةُ الحركيّون حشراتٍ تسلّلت إلى بيتنا الكنسيّ. هناك، دائمًا، في هذا العالم ما يجب أن نطأه. وأمّا الحركيّون، فليسوا منه. هؤلاء حبّهم يطلبه التزام عقيدتنا القويمة. يكفي أن نبقى نذكر أنّهم قائمون في الموقع الصحيح الذي يقوّي الأتقياء بينهم، ويشجّع الذين يعرجون بين الجانبين على السير سويًّا والطفر إلى مرتفعات الله. أليس هذا من صميم تعليمنا عن الكنيسة؟ فَلْنَخَفِ الله!