يتزايد، في هذه الأيّام، حثّ بعض المؤهّلين للخدمة الكهنوتيّة على البقاء عازبين. والحجّة الدخيلة، التي تبرّر هذا الحثّ، هي أنّ العازب قادر على بذل الوقت للخدمة أكثر من المتزوّج، وتاليًا أنّ الكنيسة تحتاج إلى أساقفة.
صار من النوافل القول إنّ هذه الحجّة، بوجهيها المذكورين، لا تحاكي التراث القويم، بل تخالفه في غير وجه. فالتراث منعنا منعًا باتًّا من أن "نفرض نيرًا ثقيلاً على الناس" (وفق ما قاله، في المجمع المسكونيّ الأوّل، الأسقف البتول بفنوتيوس الذي اعترض، بشدّة، على فرض العزوبيّة على الكهنة). والمعروف أنّ الكنيسة كانت، قبل مجمع ترولّو (العام 692)، تختار أساقفتها من الكهنة العازبين والمتزوّجين في آن واحد، وأنّها أبقت على اختيار العازبين لأسباب رعويّة حصرًا (ترولّو، القانون الـ12).
مَنْ تابع التعليقات العديدة على اختيار الكردينال الألمانيّ رتسينغر أسقفًا لكنيسة روما خلفًا للبابا يوحنّا بولس الثاني، لا بدّ من أنّه لمس أنّ ثمّة أصواتًا لاتينيّة عدّة لم تستحسن هذا الاختيار. ومن أسباب عدم الاستحسان أنّ البابا الجديد متشدّد كثيرًا حيال عزوبيّة الكهنة، ولا يقبل منها بديلاً. والثابت أنّ أصحاب هذه الأصوات لهم دوافعهم المحكمة. فالكنيسة اللاتينيّة خضّها، ولا سيّما في النصف الأخير من القرن المنصرم، ترك عشرات الألوف من الكهنة خدمتهم لشعورهم بأنّهم غير قادرين على المحافظة على عفّتهم من دون زواج. هذا إذا لم نذكر بعض التصرّفات المخجلة التي يسقط فيها، يومًا فيومًا، بعض الخدّام غير الممسكين! ولا يخفى أنّ هذا الوضع المعثر، الذي لا يقتصر على كنيسة من دون أخرى، تغذّيه شرور الإباحة التي تجتاح العالم كلّه. نقول تغذيه، ولا نعني أنّها المسؤولة الوحيدة عنه. فثمّة أمور عدّة تبيّن أنّ ثمّة مَنْ أخطأ في العنوان، وأنّ الكنيسة أخطأت في اختياره. ومع تأكيدنا الثابت أنّ العزوبيّة الطاهرة ممكنة دائمًا للمقدّسين، لا يمكننا، أمام هذا الحال، أن نغضّ الطرف عمّا يجري في الأرض، إذا أردنا حقًّا أن نكون حكماء وراضين الحقّ.
لسنا، في هذه السطور، بوارد البحث في اختيار أساقفة من الكهنة المتزوّجين. فدون هذا الاختيار، اليوم، معوقات محلّيّة وعالميّة. لكنّ ما يعنينا، الآن، هو الكلام على زواج المؤهّلين للكهنوت. فمن المعلوم أنّ آباءنا القدّيسين قد حبوا، في المجامع المسكونيّة، الكهنة المتبتّلين عن الزواج (مجمع قيصريّة الجديدة، القانون الـ1؛ ترولّو، القانون الـ26). ولم يقبلوا بزواج لهم ثانٍ بعد ترمّلهم (ترولّو، القانون الـ3). ولكنّهم لم يمنعوا أنفسهم من رسامة المتزوّج، ولم يفرضوا، تاليًا، التبتّل على مَنْ يختار الزواج قبل رسامته (مجمع غنغرة، القانون الـ4؛ ترولّو القانون الـ13). لا، بل أسقطوا كلّ مَنْ يمنع كاهنًا من مساكنة زوجته، وأسقطوا الكهنة الذين يحاولون أن ينفصلوا عن زوجاتهم "بحجّة التقوى" (قوانين الرسل القدّيسين، القانون الـ5؛ ترولّو، القانون الـ13). ولا نبدي جديدًا إن ذكرنا أنّ الزواج، الذي هو سرّ من أسرار الكنيسة، قادر على أن يحفظ الإنسان الذي يخاف الله، وينجّيه من شرّ الأرض ولوثها. فالكهنة بشر. والربّ، الذي لم يأنف من أن يختار بعض رسله من المتزوّجين، رسم للكهنة، ككلّ الناس، إطار حفظ لهم. لا يعني هذا أنّ الزواج هو، في تراثنا، إطار للحفظ وحيد. فمن بعد انطلاق الرهبنة، في منتصف القرن الثالث، باتت الحياة في الدير، بما تتطلّبه من وعي وصلوات دائمة وشركة وجود وابتعاد عن شرور العالم ومراقبة للذات وانفتاح كلّيّ على الإخوة المختبرين وغيرها، خير حافظ لِمَنْ يختارونها. والأعلى من هذا كلّه أنّ المواهب، التي يغدقها الروح على كنيسته، هي التي ترسم الخدمة الكنسيّة، وتحدّد مَنْ يجب أن يتولاّها، وليس أوضاع المؤمنين العائليّة.
ثمّ تفترض الموضوعيّة أن نقرّ بأنّ الزواج، ولا سيّما الناجح، يعطي الكاهن استقرارًا نفسيًّا وجسديًّا، وخبرةً في خدمة العائلات التي يرعاها. وإن كنّا لا ندّعي أنّ الزواج هو، بحدّ ذاته، مولّد الخبرة، فإنّنا لا ننكر أهمّيّته في مسيرة اقتناء الخبرة اللازمة للرعاية. فثمّة، موضوعيًّا، أمور يعرفها المتزوّج، ويتمرّس بها، "وليس من المفروض أن يعرفها العازب". ولا يشكّ مطّلع في أنّ الناس، في غير موضع، يبدون ارتياحًا ظاهرًا للكهنة المتزوّجين، ويركنون إلى مشورتهم وعونهم في العثرات والصعوبات، التي تعيق استمرار زواجهم، والتي يزداد تفاقمها يومًا فيومًا. فالكهنة خدّام الناس. والناس، بمعظمهم، متزوّجون. ورعايتهم، في سبيل اقتناء الحقّ والثبات فيه، تفترض خبرةً وحكمةً كبيرتين. وهذا الثابت لا يزعزعه زعم الزاعمين أنّ الكاهن العازب قادر على بذل الوقت للخدمة أكثر من غيره. فهذه حجّة متسرّعة، وتفترض إثباتًا يصعب تبيانه من دون إقامة دراسة ميدانيّة. وأوشك أن أقول إنّ أيّ دراسة، إن تمّت، لن تثبت عكس ما هو ظاهر.
غير أنّ المستغرب، في هذا الأمر المتزايد تفاقمه، تفوق مخالفته كلّ حدود عندما يجرؤ أسقف على أن "يأمر" بعض المدعوّين إلى الخدمة الكهنوتيّة بأن يبقوا من دون زواج! وتفوق أكثر عندما يمتنع عن رسمهم في حال خالفوا! وهذا، الذي يحدث، يحار اللسان في وصف ظلمه. وللأسف يقبل بعض المدعوّين الأمر، وأحيانًا مرغمين. وللأسف الأشدّ أنّ بعضهم الآخر يقبل به بعد أن ينال وعدًا بدرجة أعلى! والوعد يغري. وقبوله يذكّرنا بأمور مخيفة خلنا أنّ الزمن قد طواها. فلا يجهل ملتزم أنّ حربًا شعواء شنّت، في غير جيل، على السيمونيّة في الكنيسة. والسيمونيّة، لِمَنْ لا يعرفها، آفة أطلقت، في التاريخ، على كلّ مَنْ اتّبع تصرّف سيمون الساحر الذي أراد أن يشتري بماله، من الرسل، مواهب الروح القدس (أعمال 8: 9- 24). ويبدو أنّ ما طُرد من الباب أخذ، ولو بوجه آخر، يطلّ من الشبّاك. فدفع المال، أو ارتضاء العزوبيّة بعد وعد بدرجة أعلى، وجهان لعملة واحدة. ولا يصعب أن نتصوّر وضع مَنْ يرغم على اختيار ما لا يريده لنفسه. فالإرغام نقض للحرّيّة التي هي، وحدها، شرط اتّباع الربّ وخدمته. وهذا لا يناقشه الذين يلتزمون كلمة الله الظاهر وضوحها في التراث القويم.
لا نريد أن نظنّ أنّ الذين يطلبون عزوبيّة الكاهن، يحسبون أنّها إطار ثابت للقداسة، ولا أنّهم ضدّ الزواج كلّيًّا. فهذا وذاك كلام، إن وُجِدَا فعلاً، لا قيمة لهما في سياق الفكر والحياة المسيحيّين المستقيمين، وتاليًا لا يحتاجان إلى ردّ.
من الواجب دائمًا ألاّ يضع أحد نيرًا ثقيلاً على الناس، أي من الواجب أن نقبل الكنيسة كما أسّسها ربّها. ولا نزايد على مَنْ يعرف، وحده، ما ينفع كنيسته، ويغنيها.