الحياة الروحيّة، كلمتان، في سياق التزام الحياة المسيحيّة، تفترض - أو تفسّر - إحداهما الأخرى، وذلك أنّ الروح القدس الذي يعمل في هَدْي الناس ويحرّك القلوب إلى الله، هو "رازق الحياة" الحقّ التي كثيرًا ما يهملها الذين يرتاحون إلى بريق العالم القاتل وخداعه.
لا بدّ من أن نذكر بدءًا أنّ ثمّة وجهًا واحدًا للالتزام يقوم على تلازم القول والحياة، وذلك أنّ أمور الروح لا تُكتَسَب بالكلام أو بالتأمّلات النظريّة فقط وإنّما بالعمل أي بالخبرة أيضًا (ننشد في ذكرى قديس بارّ: "وجدت بالعمل المِرقاةَ إلى الثاوريّا (الإلهيّات)"). هذا التلازم بين القول والحياة أساسه ما ارتضيناه في المعموديّة عندما رفضنا علانيّةً "الشيطان وكلّ أعماله وجميع ملائكته وكلّ عبادته وكلَّ أباطيله"، ووافقنا المسيحَ ملكًا وإلهًا، أي عندما قرّرنا أن "ننفصل" عن العالم وقوّته وَقَبِلْنا طوعًا، وبحرّيّة تامّة، أن نكون كلّيًّا للربّ القدّوس والمقدِّسِ العالم. أن نؤمن بأنّنا نولد من جديد في المعموديّة يُلزمنا أن نعمل دائمًا ما تطلبه المعموديّة من أمانة واجبة علينا حتّى تبقى نفوسُنا في حلّتها الجديدة، ونتَمَكَّن من البلوغ إلى "ملء قامة المسيح".
أسّس الربّ سرّ الإفخارستيّا عربونًا لهذه الغاية (البلوغ إلى ملء قامة المسيح)، وهو الطعام الذي يوافق حالتنا الجديدة، أي التمتّع بالحياة الأبديّة التي "هيّئتنا المعموديّة لها". فالإفخارستيّا التي هي "سندُ نموّ المولودين جديدًا وزادُهم السماويّ الدائم في مسيرتهم الروحيّة"، هي تاليًا عربون وصولهم ووجه من وجوه مشاركتهم في ليتورجيا السماء والعالم الآتي منذ الآن.
غير أنّ التقدّم إلى سرّ الإفخارستيّا، يتعارض تعارضًا كليًّا مع حياة النجاسة، لا بل إنّه يدين الأنجاس (1كورنثوس 11: 27- 29). وهذا، من جهة، لا يُقصد به أنّ أحدًا، مهما كانت خطاياه شهيرة، مسموح له أن يقطع هو نفسه عن المشاركة في "عشاء الله"، كما يسمّيه ترتليانوس، ولكنّه، من جهة ثانية، لا يعني أبدًا أن يتقدّم الخطأة - المصرّون على خطيئاتهم - قبل توبة، إلى شركة الكنيسة... لقد افتدانا المسيح بآلامه من الخطيئة والموت وجدّدنا بِغَلَبَته، وقد ترك لنا ما يفيد تقدّمنا في القداسة والحقّ، وهذا التقدّم يفترض المحافظة على "المحبّة الأولى"، فالقداسة تنادي القداسة، وهي تاليًا تُهيّئ لها.
تقوم الحياة الروحيّة، إذًا، على الثبات في الالتزام الكنسيّ. مِنَ الكنيسة التي تتحقّق في لقاء الجماعة المدعوّة يتأسّس شكل العالم الجديد، وهذا أمر غاية في الأهمّيّة، ويتعارض تاليًا مع كلّ تفرّد في الالتزام. التفرّد، أو الفرديّة، هو ضدّ الجماعيّة، وذلك أنّ كلّ ما يعمله الملتزمون كنسيًّا يعملونه لـ"بنيان الجسد"، أي الكنيسة. في الكنيسة الأولى كان سرّ التوبة يمارس أمام الجماعة كلّها، وذلك لأنّ كلّ خطيئة ترتكب هي ترتكب بآنٍ ضدّ الله والإخوة، وهذا أساسه الوعي بأنّ القداسة هي "جماعيّة" (قوامها الالتزام في حياة الجماعة)، فمَنْ تقدّس بمحبّة الله والإخلاص له هو حجر حيّ في البناء ويساهم في ارتفاعه. لا شكّ في أنّ الرّوح الذي منه "يأتينا التجدّد" (القدّيس غريغوريوس النزينزي)، هو واحد، غير أنّ عطاياه وزّعت على الكلّ بما يفيد الكلّ ويقدّس العالم كلّه. ولذلك لا أحد في الجماعة يستطيع أن يقول لِآخر "لا حاجة لي إليك"، وهذا يُبطل أيّ موقف يدعو إلى التزام موهبة من دون المواهب الأخرى، يقول الرسول: "لو كان جميعها (الأعضاء) عضوًا واحدًا أين الجسد" (1 كور 12: 19). فالكلّ يتقدس بالكلّ، هذه هي القاعدة الأساس، والعضو الذي نحسب أنّه بلا كرامة هو مفيد لبنيان الكنيسة كما يفيد أصحابُ المواهب الأخرى، وفق قول الرسول في الرسالة عينها: "أعضاء الجسد التي نحسب أنّها بلا كرامة نعطيها كرامة أفضل. والأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل. وأمّا الجميلة فينا فليس لها احتياج. لكنّ الله مزج الجسد معطيًا الناقص كرامة أفضل، لكي لا يكون انشقاق في الجسد بل تهتمّ الأعضاء اهتمامًا واحدًا بعضها لبعض. فإن كان عضو واحد يتألّم فجميع الأعضاء تتألّم معه. وإن كان عضو واحد يُكرّم فجميع الأعضاء تفرح معه. أمّا أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا" (12: 23- 27). وهذا يرشدنا إلى القول، بتركيز أشدّ، إنّ مَن التزم لا يعمل شيئًا من أجل نفسه وحسب، وإنّما من أجل الجماعة كلّها، وتاليًا إذا أهمل أحدٌ موهبته فهو لا يخطئ خطيئة شخصيّة فقط، وإنّما يخطئ إلى الإخوة أيضًا "ويجرح ضمائرهم"، وهو، تاليًا، يُعطّل "إظهار الروح".
غنيّ عن البيان أنّ مَن تجنّد للحقّ مرشّح لأن يقابله دائمًا عداءُ العالم، فإن قُلتَ إنّ الإنجيل يطلب جهدًا من الناس، وإنّه المذكّر بأنّ الله يُعرف ويُحَبّ في "الأزمنة الرديئة"، ينتصب أهلُ الدنيا - بأعذارهم - ليدافعوا عن الواجبات نحو الأهل والمريض والعمل... وذلك تبريرًا لكسل في الالتزام بات مرضًا صعبًا. لا ريب أنّ هذه الواجبات هي أساس لا يهمله الطاهرون، غير أنّها لا تحلّ مكان الصلاة أو الاختلاء اليوميّ إلى كلمة الله التي هي بآنٍ دستورٌ للحياة ونبعٌ للتعزية. ما لا شكّ فيه أنّ المشكلة هي في تبرير الخطايا والتهرّب من الالتزام بإعطاء الكسل والتقاعس تفسيرًا إلهيًّا. هاكم بعض ما يردّده بعض الناس، يقولون مثلاً: إنّ العمل صلاة، أو إنّ تربية الأولاد والخدمة المنزليّة أيضًا صلاة... وهذا غالبًا ما يكون عذرًا لعدم الصلاة أو جهلاً لقوّتها، وهو تاليًا خروج عن الجماعة التي تلتقي السيّد بالطاعة كلّما ناداها. لا ريب أنّ الذي يعمل أو يخدم مريضًا أو محتاجًا... يمكنه أن يعمل ما يعمله وهو في وَضْعِ صلاةٍ (أي أن يكلّم الله في قلبه أثناء عمله)، غير أنّ هذا لا يعطي أحدًا حجّةً لينقطع عن لقاء الربّ والإخوة، إذ إنّ المؤمنين الحقيقيّين يعرفون أنّ كلّ خير يُعْمَل هو امتداد لهذا اللقاء الفريد الذي أعتقهم من بعثرتهم وأقامهم جماعة لله.
أوحينا في المقدّمة أنّ الأرثوذكسيّة لا تعرف الفصلَ بين العقل والقلب، وذلك أنّ استقامة العقيدة تفترض استقامة الحياة، واستقامة الحياة تفترض الإيمان القويم. والتعليم الإلهيّ فيها ليس ترفًا فكريًّا، وهو يخصّ المعمّدين جميعًا، لأنّه يُحَصِّن القلوب ويساهم في كشف وجوه الله الحيّة والمتعدّدة، وهذا يفترض سهرًا يوميًّا ودرسًا متواصلاً، خصوصًا مِنَ القادر على الدرس. والتعليم خدمةً تتعهّده الجماعة كلّها، ولا يتعاطاه جيّدًا، كما يوحي كليمنضس الإسكندري، إلاّ الذين "تهذّبت نفوسهم وشفيت تمامًا". وممّا يعنيه هذا القول أنّ الجماعة هي التي "تنتدب" لهذه الخدمة مَنْ تلاحظه يحيا وفق الروح وبآنٍ قادرًا على التعبير.
يقول الربّ في عظة الجبل: "أنتم نور العالم. لا يمكن أن تَخفى مدينة واقعة على جبل. ولا يُوقِدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيُضيءُ لجميع الذين في البيت. فليُضئ نوركم هكذا قدّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويُمجّدوا أباكم الذي في السموات" (متّى 5: 14- 16؛ قارن مع أعمال 13: 1- 3). يدلّنا هذا القول، في السياق عينه، على أنّ الكلمة الإلهيّة التي تُعرَف "في البيت" أوّلاً، أي في الكنيسة، قيلت في التاريخ لتُطاع، لا لتنقل شفاهًا فقط وإنّما لتُنْقَل بالطاعةِ طاعةِ الحياة أيضًا. فالشهادة ليسوع المسيح، هي إيّاها شهادة الكلمة وشهادة الحياة، وهذا يعني أنّ المسيحيّين مدعوون إلى أن يطيعوا كلمة الله حتّى ولو كلّفتهم هذه الطاعةُ حياتَهم. هذا يجعلنا نذكر أنّ الكنيسة، بخاصّة في القرون الثلاثة الأولى، كانت تبذل الغالي والرخيص في سبيل أن يُعْرَف يسوع ويُحبّ وحده، وكانت كلمته: "مَنْ أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل"، تُنفّذ بحرفيّتها. لا يَنقُل المسيح في العالم إلاّ الشهداءُ، وهذا يفترض أن يرتضيه المؤمنون رضاء كاملاً يترجمه "إصغاءٌ أشدّ" إلى كلمته، إصغاءٌ هو، في حقيقته، نوع من أنواع الموت (الطوعيّ)، وذلك أنّ الذي يطيع الكلمة إلى الأخير هو يشهد بأنّ مشيئة الله باتت هي وحدها مشيئتَهُ.
من ميزات المسيحيّين الأوائل أنّهم كانوا يتعبون من أجل الله وكلمته (يقول بولس "وبأتعاب كثيرة"). والتعب غايته مجد الله، وهذا يغالط كلّ فكر عالميّ، وذلك أنّك، في الكنيسة، تتعب من أجل فرح الله وغنى الإخوة وليس من أجل مكسب شخصيّ، وتتعب من دون أن تنتظر مجدًا أو تصفيقًا بشريّين، أو تصفعك كلمةُ بولس: "لست عبدًا للمسيح"، لأنّك تهتمّ بإرضاء الناس. لا أحد يستطيع أن يكون مسيحيًّا ويحيا في الكنيسة فردًا لا ينظر إلاّ إلى ذاته وما يناسبه أو ما يراه هو صحيحًا، حتّى ولو كان يعتقد أن ما يعمله - أو سوف يعمله - يفيد العالم كلّه. هذا أمر أساس، أنْ نُسَلِّم حياتَنا للإخوة، وأن نتعب من أجل يسوع وإنجيله وبنيان الكنيسة لهو ضمان على أنّنا أعضاء في كنيسة بولس الرسول ويوحنا الذهبيّ الفم ومرقس أسقف أفسس وغيرهم...
لا بدّ، ونحن نتأمّل في موضوع الالتزام والحياة الروحيّة، من أن نذكر، ولو بسرعةٍ، وجهَيْ الصلاة والصوم، في ما نرى أنّ الكثيرين من المعمّدين لا يصلّون، وهم لا يهملون دعوة الله إلى القدّاس الإلهيّ وحسب، وإنّما أيضًا الصلوات اليوميّة وعموم الأصوام الكنسيّة. ولا أقصد التجنّي إن قلت إنّ الناس عمومًا لا يعون أنّ هذه الممارسات مطلوبة من كلّ عضو في الجماعة، ويبرّرون أنفسهم بقولهم إنّها تخصّ الكهنة والرهبان أكثر ممّا تعنيهم. ناهيك عن الفرديّة في ممارسة الصلاة والصوم، كلٌّ يقول ما يريد في دعائه، وينقطع عمّا يحبّ في صومه. السؤال الذي أطرحه في عجالة، هو: كيف نُعبّر عن أنّنا أعضاء في جماعة الله وأنّنا نحبّه ونؤمن بوجوده، إن كنا نرفض دعوته ونهمل مخاطبته؟ وكيف نؤكّد أنّنا مرتضون ملكوته الذي يحضّنا على أن نفتقر في العالم ونحبّ "الإخوة الصغار"، إن كنّا لا نصوم؟ فالصوم والصلاة، كما فهمتهما الكنيسة ومارستهما، وجهان لا ينفصمان للحبّ، وهما وسيلتان غير مردودتين للتعبير عن حبّنا لله وحاجتنا الدائمة إليه...
قلتُ، في بدء هذه السطور، إنّ أمور الروح تكتسب بالخبرة، هي خبرة القدّيسين، وفي تراثنا هي مضمونة. الروح يقول: "لا تقسّوا قلوبكم"، ويقول أيضًا: "لا تشاكلوا هذا الدهر". العارفون ليس لهم عذر. فلنخرج على كلّ انحراف ولنتشدّد، فإنّ الحياة بالروح يصنعها هو، فلنسمح له.