في قراءتنا الأناجيل الإزائيّة (متّى، مرقس ولوقا)، لا نجد اسم فيلبّس في سوى قائمة الرسل الاثني عشر. أمّا يوحنّا الإنجيليّ، فيأتي على ذكره، بعد تحفة دعوته (1: 43- 48)، ثلاث مرّات أيضًا. الأولى، قَبْلَ معجزة إطعام الجموع، حيث يخبرنا أنّ الربّ خصّه بسؤاله: "من أين نشتري خبزًا، ليأكل هؤلاء؟"، وأنّ تلميذه أجابه: "لو اشترينا خبزًا بمائتَيْ دينار، لَما كفى أن يحصل الواحد منهم على كسرة صغيرة" (6: 5 و6). الثانية، في سياق دخول يسوع مدينة أورشليم، حيث كان بعض اليونانيّين في جملة الذين صعدوا، ليسجدوا في العيد. هؤلاء تقدّموا إلى فيلبّس، وسألوه: "يا سيّد، نريد أن نرى يسوع". فذهب فيلبّس إلى أندراوس. وذهبا معًا، وأخبرا يسوع (12: 20 و22). والثالثة، في آخر خطاب ألقاه يسوع، حيث قال له فيلبّس: "يا ربّ، أرنا الآب وحسبُنا". فقال له يسوع: "إنّي معكم منذ وقت طويل، أفلا تعرفني، يا فيلبّس؟ مَنْ رآني، رأى الآب. فكيف تقول: أرنا الآب؟ ألا تؤمن بأنّي في الآب، وأنّ الآب فيَّ؟" (14: 18 و19).
في سياق ذكره، يخبرنا يوحنّا بأصل فيلبّس. يقول من بيت صيدا (1: 44) في الجليل (12: 21)، وهي مدينة تقع على شاطئ بحيرة طبريّة في شمالها إلى الشرق حيث يصبّ نهر الأردنّ. وبهذا الذكر، أراد أن يدلّنا على أنّ فيلبّس كان صيّادًا (أندراوس وبطرس، وفق الإنجيليّ الرابع، كانا من بيت صيدا أيضًا)، فبيت صيدا هي بيت الصيد (أو بيت السمك). وربّما أراد أن تحقَّقَ ما قاله النبيّ في الأزمنة المسيحانيّة، أي: "ويقف الصيّادون من عينَ جَدْيَ إلى عَجَلائيم، فيكون مَنْشَرًا للسمك، ويكون سمكه على أصنافه كسمك البحر العظيم (البحر الأبيض المتوسّط) كثيرًا جدًّا" (حزقيال 47: 10). هذا يرجّحه أنّ الربّ قد استعار، مرّةً، مهنة تلاميذه (الصيد)، ليكلّمهم على أنّهم سيكونون "صيّادي الناس" (متّى 4: 18 و19).
إذًا، ذكرَ الإنجيليُّ فيلبّسَ أربع مرّات. في المرّتين الأولى والثالثة، يرينا أنّه، بعد أن دعاه يسوع، جاء بسواه إليه. أوّلاً، جاء بصديقه نتنائيل. وهذا، في منطق يوحنّا، يعني أنّ الصداقة (والأخوّة، في مَثل أندراوس وبطرس) قد تساعد في تحقيق الدعوة، أي ليس، عنده، من أيّ تعارض ما بين حبّنا له وحبّنا لِمَنْ هم معنا وإلينا. ودائمًا، هذا يفترض أن يكون حبّنا للربّ قويمًا لا عرج فيه. وثانيًا، كما رأينا، أتى بأشخاص يونانيّين طلبوا أن يروا يسوع (أي يكلّموه). ففيلبّس يظهر أنّه أدرك أنّ مهمّته تقتضي بأن يأتي بالناس إلى يسوع. وَمِنَ الناس مَنْ يجب أن يبحث عنهم، ويجدهم، ويدعوهم. وهذا يذكّر بدعوته. فيسوع لقيه، وأنعم عليه بأن اختاره (يوحنّا 15: 16). ومنهم مَنْ يأتون من أنفسهم، وعليه أن يخدم وصولهم إلى الربّ. العالم كلّه يجب أن يأتي، القريبون والبعيدون (اليونانيّون، مثلاً، الذين يبدو فيلبّس يتكلّم لغتهم). هذا كلّه يدلّنا على أنّ فيلبّس بدا يعي أنّه، في آن، فم وجسر. بدا شخصًا يعنيه أن يدرك الناس خلاصهم بالتحاقهم بإله افتقدنا من عليائه، ليعدينا إلى علوّ خسّرتنا إيّاه خطايانا المقيتة.
في حادثة إطعام الجموع التي جرت في منطقة قريبة من بحيرة طبريّة، يمتحن الربّ تلميذه بسؤاله: "من أين نشتري خبزًا؟". فيلبّس يعرف المنطقة وجوارها، وتاليًا أن ليس فيها طعام يكفي الجموع الموجودة. وبيّن، في جوابه، أنّه ما زال أسير ما يعرفه. وإذًا، يجب أن يتربّى. وكيف ربّاه يسوع؟ بأمرين. أوّلهما بِمَثل صبيّ كان يحمل طعام الفقراء في ذلك الزمان، أي بأنّ مَنْ يتبعه يجب أن يكون مثل هذا الصبيّ، فيعطي كلّ ما عنده. وتاليهما بأنّه هو، أي يسوع، الطعام الحقّ الذي يحتاج إليه كلّ إنسان، والقادر، بحضوره، على إتمام خدمة أهل الأرض، مهما كانت إمكاناتهم وضيعة! الكنيسة، التي بناها الربّ في هذه الحادثة، مدعوّة، دائمًا، إلى أن تذكر أنّ ربّها، بقليلٍ قدَّمَهُ صبيّ، أحيا كثيرين! لم يطعمهم فحسب، بل أفاض خيره عليهم، بل حوّل عطيّتهم إلى طعام ثمين لا يجوز أن "يضيع شيء منه". هذا هو نوع الغنى الذي تكلّم عليه بولس بقوله: "فقراء، ونغني كثيرين" (2كورنثوس 6: 10). وهذا ما كان فيلبّس يحتاج إلى أن يرتقي إلى معرفته، ليحسن نقله إلى العالم، ونحسن، نحن أيضًا، أن نستلمه، وننقله.
أمّا في الذكر الرابع، فعلّم يسوعُ فيلبّسَ أمرًا آخر. كان تلميذه قد سأله أن يريهم الآب، وكفى. بدا مستعجلاً. ماذا أراد؟ أراد أن يُقصّر الطريق التي تؤدّي إلى الآب. هذه حماسة لا ترى! أين كان لمّا قال لهم يسوع الآن: "أنا الطريق" (14: 6)؟ سمعه معلّمه. ومن دون أن يؤخّر استعجاله!، لامه بقوله: "إنّي معكم منذ وقت طويل، أفلا تعرفني". وأردف: "مَنْ رآني، رأى الآب"، أي أعاد: "أنا الطريق"، أي قال: لا أحد يقدر على أن يصل إلى الآب من دوني. أنا، أنا، الطريق الوحيد إلى أبي. وختم بسؤاله: "ألا تؤمن بأنّي في الآب، وأنّ الآب فيَّ؟"، ليعلّم تلميذه، ويعلّمنا أيضًا، أنّ الطريق نسلكه، أبدًا، بإيمان به واثق.
ربّما كنّا نفضّل أن يكتفي يوحنّا بذكر فيلبّس مرّتين: أوّلاً وثالثًا! ولكنّنا، بهذا التفضيل، نهمل أنّ الإنجيليّ الفذّ نسج ما نسجه بخيوط واقع يشبهنا. أن نتبع يسوع، أن ندعو الناس إليه، أمران يعوزهما، دائمًا، أن نبقى ندعو أنفسنا إلى طاعة كلمته. الالتزام كلّه مسيرة يقودها الربّ الحاضر. هذا الإله، الذي تبعه فيلبّس ورفاقه، إله يعرفنا، ويحبّنا. ولكنّه إله مربٍّ. إنّه يعرفنا ويحبّنا، إذًا فهو مربٍّ. يربّينا، ليقودنا، بروحه، إلى أبيه. هذا، إن قبلناه مثلما قبله فيلبّس، يجعلنا إيقوناتٍ تخدم مجده في الأرض.