لم تكن تعرف أنّ خروجها من منزلها، في هذا اليوم، سيغيّر لها مجرى حياتها. كانت، يوميًّا، تتدثّر بـ"أوان الظهر"، لتقصد "بئر يعقوب"، تملأ جرّتها، وتعود من دون أن ترى أحدًا، أو يراها أحد. فالناس، بل نظراتهم المسنَّنة التي تفضح حياتها العفنة، إن في مشاغلهم أو في منازلهم. كانت تعرف أنّه لم يبقَ لها، في الدنيا، سوى صديقَيْن: شمس يتجنّب بنو جلدتها لهيبها ظهرًا، وطريق تعوّدت خطواتها المسرعة!
أمّا يسوع، فكان هناك ينتظرها. "كان قد تعب من المسير. فجلس دون تكلّف على حافّة البئر". وجاءت هي، لتستقي. رأته وحده. لم تعرف أنّه أتى من أجلها. حاولت أن تتحاشاه. لكنّه طلب أن تسقيه. ارتاحت إلى لهجته! أدركت أنّه "غريب". رفعت عينيها نحوه. ولفحتها، من عينيه، نظرة وادعة افتقدتها طويلاً. أين عيون أهل السامرة من عينيه؟ وقرّرت أن تردّ عليه. فذكّرته بالعداوة التي بين شعبه وشعبها. هل تسرّعت بلفظ ما قد يقطع المحادثة؟ منذ متى لم يكلّمها أحد؟ واختطفها إليه بردّه عليها. قال: "لو عرفتِ عطيّة الله وَمَنِ الذي قال لك: أعطني لأشرب، لطلبت أنتِ منه، فأعطاك ماءً حيًّا". إذًا، لم يقطع المحادثة! لكن، كيف له ماء حيّ، ولا دلو معه، والبئر عميقة؟ قالت في سرّها، ثمّ أفصحت عمّا قالته في سرّها، وأضافت: "ألعلّك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، ومنها شرب هو وبنوه وماشيته؟".
يا لكِ من أمرأة مدّعية! هل هذا جواب يقال؟ كلّ ما طلبه منك أن يشرب. أعطيه بعض ماء. أنهي الأمر، وعودي إلى منزلك. ماذا تريدين منه؟ لِمَ تتباهين بذكر أبينا يعقوب كما لو أنّك تستحقّين أن تتلفّظي باسمه؟ إن كان قد قَبِلَ أن يحدّثك، فلأنّه لا يعرفك على حقيقتك! هل نسيت مَنْ تكونين؟ تخفين نفسك بتقوى لا تربطك بها سوى بئر! غبيّة تتكلّم! لكنّه لا يستغبيني. ما زالت عيناه هي هي. أنظر إليه، وينظر إليّ. ولا أشعر بأيّ تبدّل فيه. ما زال نفسَهُ. إن كان قد انزعج، فليقطع هو المحادثة. أنا قلتُ ما فكّرتُ فيه. وإن صمتَ، فلن يسمع منّي بنت شفة. سأعتبره لقاءً ما كان. قالت في سرّها أيضًا، وانتظرت!
أجابها يسوع: "كلّ مَنْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. وأمّا مَنْ يشرب من الماء الذي أنا أعطيه له، فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه له يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبديّة".
عاد إلى الكلام! ويا له من كلام! ما يقوله صحيح. أنا آتي إلى هذا البئر دائمًا. وما أشربه منه، إن رواني، فإلى حين. ولكن، على أيّ ماء يتكلّم؟ أيّ ماء، إن شربتُهُ، يهبني أن يهجرني العطش إلى الأبد؟ قلتُ له إنّ البئر عميقة، ولا دلو معك. وما زال يكلّمني على الماء. ما هذا الإصرار؟ هل أطلب أن يعطيني ما يوفّر عليَّ عناء المجيء إلى ههنا، ما ينقذني من المصادفات المسنَّنة؟ ما هي خسارتي؟ فلأطلب!
قالت له: "يا سيّد، أعطني هذا الماء، لكيلا أعطش، ولا أجيء إلى ههنا، لأستقي".
أجابها يسوع: "اذهبي، وادعي رجلك، وهلمّي إلى ههنا".
رجلي؟! أيّ رجل أدعو؟ الأوّل؟ الثاني؟ الثالث؟ الرابع؟ الخامس؟ أيًّا منهم؟! هذا، إن قَبِلَ أحدهم أن يأتي! وفوق هذا، يريدني أن أعود إلى ههنا! طلب منّي ماءً، وطلبتُ أن يعطيني من مائه. فليعطني! ماذا أقول له بعدُ؟ هل أقول له حقيقتي كلّها؟ لا، لن أقول! سأقول ما أنا عليه الآن: "إنّه لا رجل لي".
"أحسنتِ بقولك: لا رجل لي. فإنّه كان لك خمسة رجال. والذي معك الآن ليس رجلك. هذا قلته بالصدق". يا إلهي، الرجل كما لو أنّه يقطن في حيّنا! أنبيّ هو؟ لو نبيًّا، لَما قال: صدقتِ، بل وبّخني! مَنْ هذا الذي جاء يغريني بمائه، ويريدني أن أفتح دفاتر حياتي؟! فلأسأله أمورًا أخرى. ما دام يعرف عنّي، فلا بدّ من أنّه يعرف كلّ شيء: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل. وأنتم تقولون إنّ المكان الذي ينبغي أن يُسجَد فيه هو في أورشليم". قال يسوع: "يا امرأة، صدّقيني، إنّها تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون فيها للآب. أنتم تسجدون لِما لا تعلمون. ونحن نسجد لِما نعلم، لأنّ الخلاص هو من اليهود. ولكن، تأتي ساعة، وهي الآن حاضرة، إذ الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ. لأنّ الآب إنّما يطلب الساجدين له مثل هؤلاء. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحقّ ينبغي لهم أن يسجدوا".
يا إلهي! ما هذا الذي يقوله؟ هل يكلّمني أنا؟ هل الآن وقت العبادة؟ ليس أحد سوانا هنا. ولقد أبى أن يكون هذا الجبل موئل عبادة. كيف لي أن أعبد الله بالروح والحقّ؟ مَنِ الحقّ؟ غريب أمره. أكلّمه، ولا أشعر بالعطش. ويكلّمني كما لو أنّه عطشان. مَنْ هو هذا "العطشان"؟ "قد علمتُ أنّ مسيّا، الذي يقال له المسيح، يأتي. فمتى جاء ذاك، فهو يخبرنا بكلّ شيء". قال لها يسوع: "أنا المتكلّم معك هو"!
سمعته. ودارت الدنيا بها! تركت جرّتها. وعادت أدراجها. الناس، الذين تعودّت تجنّبهم ونظراتهم، ينبغي لها أن تقتحمهم كلّهم، وتخبرهم بكلّ ما قال إنّها فعلته، وبأنّه المسيح. انتهى زمن التستّر والخوف. يجب أن يعرفوا أنّها، عند بئر يعقوب، عرفت "الماء الحيّ". ويجب أن يأتوا هم أيضًا إليه، ليستقوا منه. هذا ليس بنبيّ. هذا أعظم من كلّ نبيّ. إنّه الربّ المخلّص. إنّه "بالحقيقة، المسيح مخلّص العالم"!
قالوا إنّ اسمها فوتيني، أي مستنيرة. هل هذا كان اسمها، أو قد صار؟ الناس أسماء، قليلها يبقى، ومعظمها يندثر. وأمّا فوتيني، فاستحقّت أن يُكتب اسمها على صفحات آحاد الفصح، لنصادقها، ونحيا.