يتردّد، في بعض أوساطنا، أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، اليوم، هي "حركةُ قول"، بينما كانت، في انطلاقتها، "حركةَ فعل". وهذا الترداد الجارح، لا سيّما بإهماله الموضوعيّة، يفترض تذكيرًا بأنّ إرثنا لا يحتمل أن ينحصر قومٌ منّا بالإشارة إلى ما يظنّونه خطأً في بعضٍ أو في كلٍّ، بل يطلب أن يجتهد كلُّ مَنْ حلت له الحياة الجديدة في أن يقرن القول بخدمة الفعل.
هذا يمنعنا من أن نتّهم أحدًا بالعَمَى. إن كان كلّ شأننا أن نذكّر بالحقّ، فالحقّ يلزمنا أن نعتقد بأنّ كلّ قول راضٍ يفترض أن يرغب قائله في أن يُسمع. أن يُسمع، أي أن يُرى أنّ شهوة قلبه أن يَمتدّ طهر الله إلى مواقع تحتاج إليه. "أنتم الآن أطهار بفضل الكلام الذي قلتُهُ لكم"، قال ربّنا (يوحنّا 15: 3). ويعرف المعتبَرون أنّ خير ما يجعل المتكلّم مسموعًا عمومًا، ولا سيّما إن أراد إصلاح أمر يراه خطأً، أن يضع نفسه ضمن جماعة الإخوة. مثالاً على ذلك: لا نقول، إذا أرادنا أن نشجّع شخصًا أو مجموعةً على صحّة الالتزام: "أنت" أو "أنتم"، بل: "نحن". لا نشير بإصبعنا، بل بعينين دامعتين. فليس أغلى من الدموع إشارةً أخويّة. ألم يقل الرسول فيما كان يودّع شيوخ كنيسة أفسس: "فتنبّهوا واذكروا أنّي لم أكفّ مدّة ثلاث سنوات، ليل نهار، عن نصح كلّ منكم وأنا أذرف الدموع" (أعمال الرسل 20: 31)؟ لِمَ اعتمد بولس هذه الوداعة الموصولة، وأوصى بها نهجًا، في سياق عمل النصح الأخويّ؟ سؤالٌ لا يطرحه مَنْ سكنه الحبّ الواعي أنّ الدينونة إنّما هي لله وحده.
ليس من ألم، في الأرض، لا يعنيني. إن كنتُ أؤمن بأنّ كلّ عضو في الجماعة هو أخي، "لحم من لحمي وعظم من عظمي"، لا يمكنني أن أتفاصح بذكر عيوبه (المخمَّنة أو الطارئة أو حتّى الثابتة)، أو أن أقاضيه عليها. عليَّ أن أعينه على أن يرتدّ إلى الحقّ. عليَّ من أجلي ومن أجله. لا أعتقد أنّ أحدًا بيننا يجهل أنّ روح الله أنعم على شعبه كلّه بمواهبه المحيية. وهذا إنعام يريدنا الروح أن نجتهد في تثميره أضعاف أضعاف. يريدنا، أي يساعدنا على ذلك. فمن نعم الروح أنّه لا يكفّ عن العمل. يعمل دائمًا. يعمل في وقت مقبول وغير مقبول. إن رآنا مجتهدين، يحتضننا. ويزيد في احتضانه إيّانا إن رآنا على كسل ظاهر. لا يرضى الروح أن يعمّرنا الخطأ، بل يبقى يئنّ، لنتخلّص من كلّ ما يؤخّرنا عن صحّة التزامنا. وهذا، إن كنّا نعي قيمة ما وَهَبَنا، شأننا بعضنا مع بعض. هناك، لا سيّما عند الأنبياء، صورة عن شعب الله، لا تفوقها صورة، أي صورة "العروس". وهذه لا تحتمل أن يهتك سرَّها أحدٌ، اللَّهمّ سوى عريسها (الله). ونعرف أنّ ما قاله الله فيها توبيخًا مخيفٌ فعلاً. والمفارقة أنّ الله نفسه، فيما كان يوبّخها، كان يستدرجها إلى أن تتوب. الله يريد، دائمًا، أن يزفّ عروسه إلى نفسه "سنيّةً لا دنس فيها ولا تغضّن ولا ما أشبه ذلك" (أفسس 5: 27). ونحن، إن رغبنا في أن تبقى العروس (وتاليًا كلّ عضو في الجماعة) "سرورَ الله"، فينبغي لنا أن نسعى إلى ألاّ يقال فيها "المهجورة"، بل "رضايَ فيها" (أشعيا 62: 4 و5). وأنّى لنا أن يتحقّق سعينا إن لم نتب نحن أوّلاً، ونقتبس، تاليًا، من فم الروح والعروس قولنا لكلّ أخ، ولا سيّما مَنْ يحتاج إلى معونة: تعال، لنستقي "ماء الحياة مجّانًا" (رؤيا يوحنّا 22: 17)؟
معنى ذلك أنّ الله يطلب فعلَهُ منّي أوّلاً. لا شيء يثبت، إن رأيتُ الدنيا قفرًا، أنّني أحيا في بستان عنب وزيتون. وهل تنفعني بساتين الأرض إن غطّت أهلَ عشيرتي رمالُ الصحاري؟! فالثابت، تراثيًّا، أنّ ما من أمر يزكّيني إن لم ألتزم أنّ الله ينتظر أن أبذل نفسي، ليخلص الكلّ. ينتظر أن أجنّب كلَّ أخٍ لي أن يغدو "لعنةً وَدَهَشًا وصفيرًا وعارًا" (إرميا 29: 18). ينتظر، ولو غدا لسان حالي: "ويل لي يا أمّي... الكلّ يلعنني" (إرميا 15: 10). فخير لي أن أُلعن من أن أُطوَّب وحدي. وهل يطوَّب مَنْ يغضّ طرفه عن آلام بني جِلدته؟ هل يطوَّب مَنْ تنهش صدرَهُ سلبيّةٌ متعبة؟
لقد سمعتُ، منذ أيّام، على وسيلة إعلاميّة، جزءًا من برنامج حواريّ مباشر يجريه مقدّمه مع قسّيس من كنيسة تدعو ذاتها مصلِحة. كنتُ، في سيّارتي، عائدًا من زيارة تعزية، وصدم أذننيَّ صوتُ امرأة، دخلت على الخطّ، تقول: "أنا لا أرضى أن تعظني كنيسةٌ تعجّ بالخطايا" (ولم يكن قصدها أن تنتقد المتحدّث). لا أستطيع أن أجزم إن كان هذا اتّفاقًا بينها وبينه. فما سمعتُهُ أنّ صاحبنا أخذ يعلّي نفسه فوق كلّ اعتبار. جعل نفسَهُ، وبعضًا من قومه، "حملانًا بريئين من العيب". أنقل هذا، والله شاهد عليَّ أنّني لا أفعل إدانةً لأحد، بل لنهرب من أيّ نهج يعلّينا، ويُدني سوانا. لا يقدر نهضويّ على أن يتجلبب بثياب غريبة. هذا يظهره أنّه لا يؤمن إلاّ بذاته. وشأننا جميعًا أن نؤمن بالله الذي أحبّنا حبًّا شديدًا فيما لا نستحقّ شيئًا، ونقتدي به.
يبقى أن نجمع أنفسنا إلى الإخوة دائمًا. نحن قومٌ من علامات حبّنا للتوبة أن نسعى إلى أن "نثبّت إخوتنا" (لوقا 22: 32). جهدًا جهدًا، قَبْلَ رمي أيّ كلام مترفّع. فالله، الذي يأبى أن"ندلع ألسنتنا" (أشعيا 57: 4)، سنّ لنا أن ننتهج أن نفعل كلّ خير نقوله. هذا، فحسب، يبدينا أنّنا أبناء النهضة فعلاً.
10/6/2010