24يونيو

"فصلّوا أنتم هذه الصلاة"

            لفظ يسوع هذه العبارة ("فصلّوا أنتم هذه الصلاة")، ودوّنها متّى، في إنجيله، قبل الصلاة الربّيّة مباشرة وبعد مقطع قصير موضوعه الصلاة. ماذا قال يسوع في الصلاة، وماذا أراد من قوله؟ هذا ما سنورده كاملاً، ونحاول أن نبيّن معانيه.

            قال الربّ: "وإذا صلّيتم، فلا تكونوا كالمرائين، فإنّهم يحبّون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس. الحقّ أقول لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنت، فإذا صلّيت، فادخل حجرتك، وأغلق عليك بابها، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفية. وأبوك، الذي يرى في الخفية، يجازيك. وإذا صلّيتم، فلا تكرّروا الكلام عبثًا مثل الوثنيّين. فهم يظنّون أنّهم، إذا أكثروا الكلام، يستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم، لأنّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. فصلّوا أنتم هذه الصلاة: أبانا الذي في السماوات..." (متّى 6: 5- 9).

            يساعدنا هذا الكلام على أداء الصلاة الربّيّة وكلّ صلاة نرفعها باستقامة إلى الله الحيّ الذي يسمعنا، ويفرح بنا. فالربّ، الذي ينتقد في مطلع هذه الآيات المرائين، ومنهم الفرّيسيّون والكتبة في زمنه، وهم الذين همّهم، إذا صلّوا أو مارسوا أيًّا من أعمال البرّ، أن يلفتوا أنظار الناس إليهم، إنّما يريدنا أن نهتمّ بعينيه اللتين تنظران قلوبنا وتفحصان كلّ شيء، وأن نبتعد عن كلّ مراءاة لعينة. فالمراءاة هي أوّل خطر، ولعلّها أعظم خطر يواجه الذين تسكرهم نظرات الناس إليهم. وهذا الخطر لا يهاجم الإنسان الذي يصلّي "في حجرته" فحسب، لكن، أيضًا، إذا ما شارك في صلاة الجماعة. والذين يهتمّون بعيون الناس مرضى في الكنيسة. وهم، في واقع الحال، مشركون، ولو لم يعترفوا بذلك، أو لم يفهموا خطأهم. ولذلك يضيف الربّ: "إنّهم أخذوا أجرهم"، ويعني هذا أنّهم لن يأخذوا مجازاة الآب، بل عقابه. هم سيعاقبون لأنّهم يكذبون في داخلهم، أو لأنّهم لا يؤمنون بأنّ الله قادر على رؤية الأعماق وسبر أغوارها. يتصرّفون خارجيًّا، يمثّلون، يلفّقون، وهذه هي مهزلة التقوى المزيّفة.

            ثمّ يضيف الربّ: "أمّا أنت، فإذا صلّيت، فادخل حجرتك، وأغلق عليك بابها، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفية". هنا، يظنّ بعض الناس أنّ الربّ يتكلّم على مكان الصلاة، ليؤكّدوا انفصالهم عن صلوات الجماعة. وهذا تشويه لمعنى هذه الآية. وذلك بأنّ الربّ، الذي يخاطب المؤمنَ شخصيًّا والمؤمنين جميعًا، لم يتكلّم على مكان الصلاة هنا، بل على العمق الذي يجب أن تؤدّى فيه (وهذا ينطبق على أقواله عن الصوم والصدقة اللذين هما مع الصلاة أسس البرّ في موعظة الجبل). وكلامه يتعلّق بكلّ صلاة، أينما مُورِسَت هذه الصلاة، وهو، تاليًا، لا ينفي الصلاة الجماعيّة. ولذلك لا قيمة إطلاقًا لهذا القول المغلوط الذي يراد به إهمال اجتماعات الكنيسة وصلواتها. فهذا خطأ وبّخ عليه كثيرًا، منذ ما يزيد على الألف والستّمائة سنة، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في مواعظه على إنجيل متّى معلّقًا على هذا المقطع عينه، بقوله: "قد يقال: ماذا إذًا، ألا يجب أن نصلّي في الكنيسة؟ حقًّا يجب ذلك وبكلّ الطرائق، إنّما بروح مثل هذه الروح، لأنّ الله يطلب في كلّ مكان نيّة ما نفعل. لأنّك، حتّى إن دخلت حجرتك وأغلقت بابك وقمت بالصلاة للتباهي، فلن تفيدك الأبواب". وما يبقى أن نعرفه هنا هو أنّ لفظة "حجرتك" تعني، في عمقها ومداها، قلبك. وذلك لأنّ القلب هو "مكان" اللقاء بين الله والإنسان. فالربّ يقول للمؤمن: إذا وقفت للصلاة، أبعد عنك كلّ ما يعيق اتّحادك بي، كلّ فكر غريب أو خاطرة سيّئة تجعلك لا تنتبه لإلهك الحاضر أمامك الآن في قلبك يسمعك ويفرح بك.

            الخطر الثاني الذي يعيق الصلاة، أو يشوّهها، هو ما نبّه عليه الربّ في قوله: "وإذا صلّيتم، فلا تكرّروا الكلام عبثًا مثل الوثنيّين. فهم يظنّون أنّهم، إذا أكثروا الكلام، يستجاب لهم". هذا الكلام أيضًا يحرّف معناه بعض الذين يزعجهم تكرار بعض عبارات الصلاة (مثلاً: يا ربّ ارحم). يجب أن ننتبه أنّ الربّ هنا لا يقول: "وإذا صلّيتم، فلا تكرّروا الكلام"، لكن لا تكرّروه "عبثًا مثل الوثنيّين". وهذا لا يمنع التكرار أو اللجاجة إطلاقًا، فالربّ لا يرفض الملحّين، لكنّه يطلب منّا أن تكون صلاتنا نقيّة، وتكرار الكلمات حثًّا على الوعي المقدّس، وشكلاً من أشكال الثقة به. فإذا كان الوثنيّون يكرّرون صلواتهم، فصلواتهم بلا مضمون، لا لأنّهم يكرّرونها، بل لأنّهم لا يرفعونها إلى الله الآب. مشكلتهم أنّ إلههم وثن، أي شهواتهم وأنفسهم. والوثنيّة قد يسقط فيها المسيحيّون الذين "يصلّون" من دون أن ينتبهوا لقوّة الكلمات التي يتلونها ومتطلّباتها، أو يكرّرونها بحكم العادة ولمجرّد التكرار، أو الذين يريدون بصلاتهم أن يفرضوا على الله أن يلبّي حاجاتهم، ولو كانت هذه الحاجات تخالف قصده أو مشيئته الأزليّة. فالذي يصلّي إلى الله دعوته أن يسكب ذاته كلّيًّا أمام إلهه، وأن يعي أنّه يصلّي إلى الله الحيّ الذي يعرف ما نطلبه قبل الطلب، ويؤمن بأنّه يستجيب بما يوافق مشيئته. ومشيئة الله، كما يظهرها سياق الصلاة الربّيّة، تكمن في أن نحاول، بصدق، أن نجعل ما قلناه واقعًا يخصّنا، أي أن نعتبر أنّ الله هو أبونا، ونفرح به وحده، ونطمئنّ إليه، ولا نرضى أنفسنا أسرى شهواتنا التي يثيرها الشرّير.

            كلّ مَن يريد أن يصلّي الصلاة الربّيّة، وأيّ صلاة، يجب ألاّ يهتمّ بالناس أو بنفسه وشهواته، ويجب، تاليًا، أن يعرف، في واقع حياته، أنّ الله وحبّه أهمّ ما يطلبه، فلا يمنع نفسه من اللجاجة الصادقة، وأن ينتظر، بخوف، دائمًا مجازاته العادلة التي تبيّن، وحدها، صدق الصلاة وصدق الحياة.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content