ليست هذه السطور موجّهة إلى الإخوة الذين غابوا عن بلادهم منذ زمن بعيد. فهؤلاء قائمون في قلوبنا، ولهم منّا الحبّ والدعاء ورجاء الخير الوفير والعودة السريعة إن رأوا، في ذلك، سلامهم وخلاصهم. لكنّها تقصد، أوّل مَنْ تقصد، الذين ما زالوا ثابتين في هذه الأرض، أو الذين تتقاذفهم أمواج الرحيل اليوم أكثر من أيّ يوم مضى، وتاليًا الذين يرون فيها، أحرارًا، ما يعنيهم.
الأدب النهضويّ، المتعلّق بـ"التزام شؤون الأرض"، أدب يحرّكه الإيمان بتجسّد الكلمة أوّلاً. لقد سطّر الإخوة، الذين ولدونا بـ"فكر المسيح"، ألوف الصفحات التي تنفعنا وتبنينا، ولا سيّما في موقعنا. وَمَنْ قرأها، وترعرع على مذاقها الطيّب، لا يعوزه أيّ اقتباس يزيّن هذه السطور. وأنت، إن كنت تعتبر ذاتك منهم، تأتي منهم. تأتي من فكرهم، من حبّهم، ومن رغبتهم في أن تكون الكنيسة، دائمًا وأبدًا، "سنيّة لا دنس فيها ولا تغضّن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة بلا عيب" (أفسس 5: 27). والكنيسة الممدودة في مدى الله الواسع موقعها الأساس ذلك "البيت" الذي ولدَكَ، طفلاً، في المسيح، وخبرت فيه الحبّ عطاءً ونوالاً، وبذلت العرق كالدم. بلى، الكنيسة، التي ننتمي إليها، واحدة في كلّ مكان. ولكنّ الوحدة يستحيل تذوّقها بالشوق والتصوّر، أو بإهمال الموقع الأصل. ترضعها من ثدي تتّكئ عليه، وتعتاد حنانه ودفأه. ومتى كبرت، تلتزمه، وتتعهّده في غير وضع.
لقد مرّت الحرب الأخيرة على لبنان، وألقت إسرائيل بحقدها الوحشيّ، وفتكت، وعاثت فسادًا، وأتعبت نفوسًا كثيرة. لستُ بوارد صياغة تحليل سياسيّ في هذه الحرب اللعينة التي، على التهديد المتكرّر بمعاودتها، نرجو أن تكون قد ولّت إلى غير رجعة. فهذا من خارج معرفتي واختصاص المجلّة التي تنشر هذه المساهمة. لكن، مَنْ راقب ما جرى بدقّة، لا يستبعد أن يكون المرتكز الأساس، الذي بنت عليه إسرائيل حربها الغاشمة، أن تُتعِب نفوسنا أوّلاً. (وهذا، إذا شئتم كلامَ غبيّ في السياسة، أعلى أنواع "ربحها"). بلى، تريد قتلنا. وفعلت هنا وهناك. ولكنّ تعب النفس قتلٌ تتركه لنا نصيبًا إن لم تستطع أكثر، أو إن تعالت ضدّها أصوات بعض أهل الأرض الذين لم تُكمّ أفواههم! وإذا ضممنا إلى قتل المدنيّين صغارًا وكبارًا، تحليقَ الطائرات الحربيّة وأصواتَ القذائف وقَصْفَ بُنانا التحتيّة وتخريبَ البيوت على رؤوس أهلها والمشاهدَ المرعبة التي تناقلتها وسائل الإعلام المحلّيّة والفضائيّة والنزوحَ الشديد وفتحَ السفارات أبوابها لرعاياها أوّلاً وَلِمَنْ يرغب في الهجرة ثانيًا، فالنتيجة الممكن أخذها أنّ تعب نفوسنا، وتاليًا جعل أرض بلادنا "خاوية خالية" هو حلم الأحلام عند مَنْ يقلقها وجودنا وسلامنا. ولقد استطاعت إسرائيل، بالفعل، أن تلقي بثقلها في قلوب كنتَ تحسبها قويّة. ولستُ بوارد التضخيم إن قلت إنّ تعب الحرب، على عظم ثقله، كان، عندنا، أقلّ من تعب بعض الكلمات التي ظهرت مواقف على أفواه بعض إخوة كانوا، للكثيرين، خير عون في أوقات الشدّة والهوان. وأنت قد تفهم تعب الناس الذين تحسبهم بعيدين أكثر من غيرهم. ولكنّ ما تستصعب فهمه هو تعب مَنْ كُلِّفوا أن يريحوا المتعَبين في أوان السلام والتعب.
أنت، في هذا الجوّ القاتم، تدرك صعوبة الكلام على البقاء في الأرض التي يحيينا خيرها. وما زالت تلمع في عينيك الصفحات التي خطّها بعض إخوة لك انتقادًا على انتقاد الهجرة. وحجّة الذين رحلوا (ولستُ بمخاطبهم هنا، أكرّر)، والذين تراودهم فكرة الرحيل، أو قرّروها فعلاً، سلامةُ حياتهم وحياة أولادهم والاطمئنان إلى مستقبلهم الذي يرجونه زاخرًا في دنيا الله الواسعة. لسنا، مسيحيًّا، من دعاة الموت الذي سمّاه كتابنا "عدوًّا" (1كورنثوس 15: 26). ولكنّنا، أيضًا مسيحيًّا، لا يمكننا أن نعظّم دماءنا ودماء مَنْ خرجوا من صُلبنا على من سقطوا ورووا أرضنا، أو ما زالوا مهدّدين (وكلّنا مهدّد). في لبنان خصوصًا، يُطلَبُ البقاء في أزمنة الشدّة. ما تخاله سببًا للترك هو عينه سبب للبقاء. فأنت لا يمكنك أن تخضع لما تحسبه يعنيك فردًا. لا أحد، مسيحيًّا، يخصّ نفسه، بل الله والإخوة أوّلاً. وعليه، فإنّ المسيحيّ، الذي يعي أهمّيّة اندماجه في جماعة الله ودوره في موقعه، لا يفكّر وحده، ويقرّر وحده، ومن ثمّ يفصح عمّا وصل إليه من نتائج. فقد يكون مطلع التفكير خطأ، ويحكمه الخطأ في قراره. ومن واجب الذين يأبون الخطأ، ويستقبحونه، أن يكشفوا قلوبهم لِمَنْ تعوّدوا أن "يركنوا إلى كلماتهم المريحة"، وخبروا إخلاصهم لله "الذي يختبر قلوبهم"، وتاليًا أن يقبلوا أن يناقَشوا في ما مرّ ببالهم، أو قرّروه.
إذا تركنا الخوف جانبًا، فكثيرون منّا، اليوم، يقلقهم وضع العاطلين من العمل. وفي بلد ليست فيه خطّة ناجعة تساعد الذين يحبّون البقاء على البقاء، ربّما لا يكفي القلق. فمن واجب المسيحيّين، الذين يعون انتماءهم الوطنيّ، ألاّ يكتفوا بوصف الحال، أو بتخمين ألم القلقين تخمينًا عاطفيًّا أو لفظيًّا. ولا نبالغ إن قلنا إنّ دورهم الأساس لا يكمن في معالجة المشاكل الحقيقيّة والطارئة التي تضرب مجتمعنا وأهله، بل في معالجة أسبابها. وفي هذه يتساوى أمام عيونهم كلّ إنسان يحتاج إلى عيونهم وقلوبهم. وأمّا في ما يخصنّا داخليًّا، فيبدو، جليًّا، أنّ مسيحيّين كثيرين، مِمَّنْ فقدوا وظائفهم أو أنهوا دراستهم الجامعيّة حديثًا، ينتظرون أن تساعدهم كنيستهم، ولا سيّما المسؤولين فيها، على إيجاد عمل لهم، ليقوا أنفسهم ومَنْ لهم وإليهم شظف العيش، ويبقوا. وهذا انتظار شرعيّ، طبعًا. ولكنّ ثمّة مَنْ يفوته، أو يستصعب أن يقتنع، أنّ المسؤولين في الكنيسة ليس عندهم، في الواقع، الإمكانات التي يتصوّرونها. قد يقدر أسقف أو كاهن، مثلاً، على تأمين وظيفة لهذا أو ذاك من مؤمني رعيّته. ولكن، ما يقدر عليه هذا المسؤول، أو ذاك، قد يقدر عليه كثيرون غيره. لا يجوز أن ننتظر حلاًّ من الخارج (أيًّا يكن هذا الخارج!). أمّا الحلول التي تأتي من القريبين، فمن الممكن انتظارها دائمًا، أو هذا ما يجب. فثمّة مؤمنون يملكون مؤسّسات، أو يديرونها، أو عندهم وظائف رفيعة فيها، يمكنهم أن يبادروا، إذا كانوا بحاجة إلى موظَّفين، إلى الإفصاح عن حاجاتهم، ليساهموا في بقاء إخوتهم في أرضهم، ولا سيّما مَنْ يعرفون أنّهم أكفاء، أو يشهد لهم بذلك أحدٌ ثقة. هؤلاء، ومنهم مَنْ يعرف أنّ أساقفة وكهنة سألوهم وظيفة إلى أخ من إخوتهم ووعدوهم خيرًا وأخلفوا وعدهم (وبعضهم اعتذر توًّا)، أوّل مَنْ عليهم يُطرح السؤال: كيف يكون المسؤول مسؤولاً إذا لم يعضده القادرون، ويساعدوه على تتميم مسؤوليّته؟ أو: كيف تكون رغبتك في البقاء في أرضك مقنعةً إن لم ترده لغيرك؟ أو: كيف تبيّن أنّك تحبّ كنيستك ونموّها وازدهارها، إن لم تساهم، قادرًا، في بقاء من تحتاج إليهم كنيستك؟ المسيحيّون، الذين احتلّوا العالم ببشارة الله، "كان كلّ شيء بينهم مشتركًا". لا تقدر الكنيسة على أن تقوم على رؤية أخرى. ليس من رؤية أخرى. لستُ بقائل إنّ مَنْ تؤلمهم البطالة، وتهدّد حياتهم وحياة مَنْ معهم، مهما علت الصعوبات أو المغريات، خيرهم أن يسلكوا دروب الأرض التي يحسبونها مفتوحةً لهم. هذا ليس حلاًّ للمشكلة التي نواجهها. الحلّ الكامل موجود في استعادة الرؤية الكنسيّة الواحدة، أي في وعينا جميعًا أنّنا "من أهل بيت الله". أو نكون نجترّ المشكلة، ننجح حينًا، ونفشل في أحيانٍ كثيرة.
مَنْ كان مقتنعًا، حقًّا، بأنّه مسؤول عن تبيان "إيماننا بتجسّد الكلمة" وعن "ترجمة محبّة الله في أوقات راهنة"، لا يقدر على أن يقرّر اقتناعًا آخر. المسيحيّون الأكابر، في غير جيل، لم يهابوا الموت تحت ضغط أقدام المضطهِدين. وليس لنا، في إتمام مسيحيّتنا، أيّ نهج آخر. الحياة، كما الملكوت، تغتصب. قد يكون الزمن، الذي نحيا فيه، فرصةً لاستعادة بريق شهادة الدم! كيف نؤمن بأنّنا مكلّفون بعضُنا إحياءَ بعض؟ كيف نفضّل أن يكون مصيرنا في بلدنا واحدًا؟ كيف لا نخاف، أي كيف "نرى الربّ أمامنا في كلّ حين، فإنّه عن يميننا لئلاّ نتزعزع"؟ وكيف نبقى هنا، لتبقى شهادة الله في لبنان الصائر بقعةً للموت الأحمر؟ أسئلة، إن عرفنا أن يكون جوابنا عنها ما ينتظره الربّ منّا، نكون قد قبضنا على سرّ استعادة الرؤية الكنسيّة التي لا بديل لنا منها، لنحيا، ونُحيي.