20مارس

عجيبة الوحدة

مَنْ خبر الظروف الحرجة التي تعصف بمنطقتنا، ولا سيّما منها السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة، وخبر، تاليًا، إصرار الشباب النهضويّ، في مراكزهم جملةً، ومتى التقوا من كلّ أوْب، على شركة الحياة الواحدة، لَمَا تأخّر، لحظةً، عن اعترافه بأنّ ما خبره إنّما هو عجيبة فعلاً‍!

لا شكّ في أنّ هناك معالم عديدة لهذه العجيبة المدهشة. لكن، يعنيني أن أنحصر، هنا، بمعلمها الثابت، أي الوحدة. فلستُ بكاشفٍ أمرًا غريبًا عن المألوف إن قلت إنّ ما يميّز هذه الجماعة الفتيّة، من ضمن ما يميّزها، هو وحدة أعضائها. وهذا، من دون أيّ ريب، من نعم الروح الذي استمطر عونَهُ بعضُ فتيةٍ خرجوا من جرح أزمة كان يدمي جنب كنيستنا. وحسبي أنّ كلّ مَنْ انتسب إلى هذه الحركة النهضويّة لا يعنيه أمر كما الوحدة، ولا يرجو أمرًا كما أن تعمّ هذه الوحدة وجوه الحياة الكنسيّة برمّتها.

لستُ، في ما أقوله، بمتكلمٍ على بشر. فالبشر لا ينشئون وحدة بحدّ ذاتهم، ولا يمكن أن يفعلوا. وقد قلتُ بنعم الروح، أي بنعم الروح المقبولة. وهذا أعلى قول يشهد على عمل الله في تاريخنا وحاضرنا، وإن منّ الله علينا بمستقبل، ففي مستقبلنا أيضًا. فمن دون قبول نعم الروح، لا يمكن أن تتوحّد مجموعة بشريّة. من دونه، نحن أسرى خطايا لا تُعدّ ولا تُحصى. والوحدة، التي نقصدها، لا تعني وحدة الفكر المجرّد. فالتيّار النهضويّ، منذ انطلاقته، وعى ذاته تيّارًا تجسّديًّا. بمعنى أنّ أعضاءه رضعوا أنّ الفكر القويم إنّما هو حياة كلّ مَنْ آمنوا بأنّ إلههم لبس ترابنا، لنلبس نوره. ولذلك ما يلفت أنّ الحركيّين، الواعين أنّهم شركاء وجع وشركاء فرح وشركاء مصير، قائمون في حبّ وصراحة متناهيين. أسلوبهم أنّهم يلتزمون بعضهم بعضًا التزام الأخ أخاه. والأخ لا يقبل أخاه على خطأ. العجيبة من موجباتها أن أخرج إليك كما إلى قلبي، فأصدقك كلّ ما يجعلك في سلام. لا يعني هذا أنّ مَنْ انتسبوا إلى هذا التيّار يميّزون أنفسهم بادّعائهم كمالاً في الأرض، بل يعني أنّهم يدركون أنّ شأنهم أن يحيوا بجهاد مستمرّ، فيلتمسوا، معًا، كلّ عون ونصح شاء الله أن يُقدَّما بـ"روح الوداعة"، ليكون الله الكلّ في الكلّ.

لقد تعوّدنا أن نسمع الناس يسمّون عجيبةً كلّ عمل إلهيّ يفوق إدراكهم البشريّ. وهذا، صحيحًا، يجب أن يضاف إليه أنّ الحياة المشتركة، متى كانت صحيحة، هي عجيبة كاملة أيضًا. ليست العجيبة أن نعتقد أنّ الله يطلّ علينا من سمائه، بين الحين والآخر، بما يفوق إدراكنا. العجيبة هي، أوّلاً، أن نؤمن بأنّ الأرض، بمجيء ابن الله إليها، باتت سماء كلّيًّا. إنّها أن نثق بقلوبنا، بِمَنْ جاء يرفع قلوبنا، وينقّينا من كلّ بُعْدٍ ويُتْمٍ مهلِكين. يجب أن نُسقط كلّ ما يجعل العجائب أمرًا غريبًا عن حضور الربّ "في وسطنا". يجب أن نتعوّد أن نفرح بِمَنْ أراد أن يكون معنا وفينا، لنكون كلُّنا معه وفيه. وإن كانت العجيبة يصنعها الله بنفسه، أو من طريق بشر تقدّسوا بالتزام حقّه، فهذا يجب أن يدفعنا إلى الاعتقاد أنّ الله حاضر، ويفعل في مَنْ يحبّونه أيضًا. لم يكن القدّيسون يومًا سوى أشخاص حفظوا "الوصيّة العظمى" بإخلاص شديد، ونفّذوا مشيئة الله تنفيذًا لا يشوبه أيّ عيب. ولكنّ هذا، على جماله وروعته، لا ينفعنا كلّيًّا ما لم نعتقد أنّ الكنيسة، بإعلانها قداسة بعض أعضائها، أرادت أن تؤكّد أنّ الله، الذي لم ينقطع فعله في مسرى التاريخ، إنّما يريدنا نحن قدّيسين أيضًا. لا ينفع قلوبنا أن نفرح بالقدّيسين من دون أن نضمّن فرحنا أن نعاهد الله وأنفسنا بأن نتمثّل بهم في حياتنا معًا، وبأن نفرح بمن يفعلون بيننا. اعترافنا بالقدّيسين من شروطه الطيّبة أن نقرّ بفعل الروح القدس في التاريخ وزماننا الحاضر في آنٍ، وتاليًا أن نحيا له بفرح لا يسوغ وصفه بغير عجيبة، بفرح يجعل السماء في فرح عجيب.

إلى هذا، من علامات وحدة التيّار النهضويّ، أنّ أعضاءه لم يخالفوا قلوبهم بإهمالهم روح الانطلاقة الأولى التي تجعلهم في وحدة موصولة، أو في بدء مستمرّ. هل هذا يعني أن ليس في هذا التيّار مَنْ يراوح مكانه؟ لا نطرح هذا السؤال في سبيل تمجيد أحد، أو إدانة أحد. فعلى كثرة انشغال بعضٍ بالفصل ما بين الماضي والحاضر، أي ما بين الحركيّين الأوائل وَمَنْ يجاهدون بين ظهرانينا اليوم، يجب أن نبقى مؤمنين بأنّ ما دُمغت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة به قادر على أن يبيد كلّ مرواحة. هناك، في الحياة الكنسيّة، أمر لا يوازيه أمر، وهو أنّ صحّة الحياة لا يحوزها الإنسان عفوًا، بل بانخراطه في جماعة زرعها الله في أرضه، لتعينه، وتدعمه في مسيرة حياته. ولذلك إن رأيت "منخرطًا" لم ينخرط، فافهم أنّه لم ينخرط. دخل، وبقي خارجًا! ولكنّ شيئًا لا يسمح لنا، إن رأينا شخصًا رأى باب كنيسته مفتوحًا ودخل ولم يدخل، أن نرمي الحجارة على كلّ مَنْ هم في الداخل. التصرّف المشروع أن نفرح بخير الخيّرين الذين يلتزمون إرثهم، ونصبر على ضعف الضعفاء، ونضع أيدينا لنشارك في الحمل حيث هو ثقيل. فمن معايير فهمنا أنّ الله، الذي أحبّنا أوّلاً، يستحقّ أن يُحَبَّ دائمًا، أنّنا، إن رأينا قومًا يجاهدون في اتّباعهم ربّهم، أن نعطّر أفواهنا برفع الشكر لله، ونتعهّد حبّهم، ونبذل من أجل استمرار نقائه "كلّ عتيق وجديد". هذا معيار ليس مثله معيار.

كلّ قيمة حياتنا أن نعرف أنّ المسيح مات، ليجمع المتفرّقين إلى واحد. وهذا، الذي لقّنتنا إيّاه أفواه طاهرة فيما كان آباؤنا وأمّهاتنا قابعين في نوم عميق، سيبقى عجب الله الذي يريدنا أن نخدم عجبه، بإخلاص دائم، في تيّار ليس مثل وحدته وطموحه شيء.

- مجلّة النّور، العدد الثاني، ٢٠٠٨
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content