الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

عبد الله الحاجّ

"المسيح قام"!

هذه العبارة المحيية، التي تصدح تحيّةً طيلة موسم عيد الفصح، كان للأب عبد الله (الحاجّ)، ولبعضٍ من أترابه الكهنة في جبل لبنان، دورٌ في إعادة زرعها على ثغور أخويّة خارج الفصح أيضًا. إنّها، ربّما بفضله أوّلاً، باتت، إلى فترة عيد الفصح التي تدوم أربعين يومًا، التحيّة التي يعزّي كثيرٌ من الإخوة فيها بعضُهم بعضًا، إن رقد لهم قريب أو صديق. أجل، ببعضِ خجلٍ أو بكثيرٍ منه، لم أكن واحدًا منهم، بل تأخّرت عنهم وقتًا لا بأس به. كنت أسمعهم بِحِيادٍ له تبريره عندي. كنت أعلم أنّهم لا يرتجلون. ثمّة مَن علّمهم أنّ المسيحيّين الأوائل كانوا يردّدون هذه التحيّة أمام الموت إيمانًا منهم بأنّ المسيح قد غلب الموت بموته. لكنّني كنت أبرّر عنادي في حِيادي بأنّ أيّ ما نستعيده بعد انقطاع يعوزه تعليم يوضحه قَبْلاً.

مرّةً، كنت وراءه نمشي في خطّ تعزية في إحدى قرى الجبل (ربّما كنّا في قاعة كنيسة بحمدون الضيعة، رعيّته). وسمعت الذين يعزّيهم بـ"عبارته" الفصحيّة (المسيح قام) يردّون عليه بصوت واثق: "حقًّا قام!". مرّت أفكاري في رأسي. ولم أتبعه. لا أخفي أنّه خطر لي أن أرى، في الثقة التي سمعتها، بعضًا من علم. لكنّني لم أتزحزح عن موقفي. حافظت، في كلامي، بدءًا، على ما كان مألوفًا ترداده أمام موت أيّ إنسان. وصدمني أنّ المؤمنين، الذين نقلت إليهم تعزياتي، لم يلتزموا المألوف معي، بل التزموا "عبارته"، "عبارتهم". بقوا يردّون عليَّ كما سمعتهم يردّون عليه. غلبتني "تحيّته"، بل "تواطأ" المؤمنون معه، وغلبوني معًا. وألفيت نفسي، قَبْلَ أن أختم واجب التعزية، أردّد: "المسيح قام. حقًّا قام!".

هذا يريدني أن أذكر أنّ مَن عرفوا الخوري عبد الله عن قرب لا يفوتهم أنّ مصدر علمه، الذي رفعه إلى الخدمة الكهنوتيّة، كان أنّ المسيح قام. وهذا أعلى مصدر وأغلى مصدر. هل تراني أسير تحيّة؟ لا، فالتحيّة من ثمار علمه. هذه الفصحُ مصدرُها. الفصح، أي الإيمان بأنّ المسيح قام. قال بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس إنّه، إن لم يكن المسيح قد قام، فباطل إيمانكم (15: 14). أَإلى هذه القولة استند عارفوه؟ أجل، إنّما محياةً في جماعة نهضويّة. هذه الجماعة، التي هي حضن إخوة كثيرين بيننا، أعطته أن يدرك، إدراكًا بدا فيه أبديًّا، أنّ حياتنا الجديدة أساسُها كلُّها قبرٌ اكتشف فارغًا في فجر اليوم الثالث.

أمّا أبلغ علم بدا كما لو أنّه يتفرّد في توزيعه علينا جميعًا، فكان إصراره على الانحجاب أمام مَن كان يحسبهم أبرز منه في العلم. أقول يحسبهم، ولا أقول إنّهم أبرز فعلاً. كان، إذا سمعهم يتكلّمون، يعجّل في تحريك رأسه وخفض وجهه. ما سرّ الوجوه التي تنخفض؟ مَن هو الذي يخفض وجهه، التلميذ، أو المعلّم؟ المعلّم الحقيقيّ لا ينسى أنّه تلميذ أبدًا! الخوري عبد الله كان، كلّما التقينا، من دون أن يقصد، يعلّمنا من علمٍ كثيرون بيننا ما زالوا يحبون فيه. لا أقلّل من شجاعته في معرفة اللغة الكنسيّة والقدرة على توزيعها، بل آتي إليه أو إليها من وجهة أخرى، وجهة تحقيق المعرفة، أي وجهة محبّة الفضيلة.

منذ أن رأيناه يتبع كاهنًا آخر تربّى عليه، كنّا نراه يصرّ على أن ينحجب. كنّا نراه، ولا نراه! كان يمحو وجهه بتواضع عجيب. قال الربّ يسوع: "تعلّموا منّي" (متّى 11: 29). والمعنى الواقعيّ: تعلّموا عليَّ. لا يمكن أحدًا ، أيَّ أحد، أن يحوز شيئًا من فضائل المسيح الغالية، إن لم يعلّمه المسيحُ سرَّهُ. هذا كان، كافيًا، يناجي بسرّه. فالتواضع الحقيقيّ مآله أنّ المسيح يرفعك إليه، ليردّك إلى الناس رسالةً جديدةً لا تشير إلى حاملها، بل إليه، وحده، ربًّا للعالمين. الذين المسيح معلّهم لا يمكنهم سوى أن يشيروا إليه. هذا، وحده، يجعلك تميّز الذين للمسيح من الذي هم ظاهريًا له أو الذين يدّعون أنّهم له، أي الذين اغتصبوا مواقع ليست لهم. إن رأيت أحدًا يهمّه أن يبرز وجهه، يهمّه أن تقف عنده، فافهم أنّ المسيح لم يرفعه إليه. النازلون هم المرفوعون. والعجب فيه أنّ هذا ما بقي عليه إلى آخر يوم عاشه على الأرض!

ثمّ هاجمه المرض من دون إذن.

"كيف حالك؟". يرفع يده، ويجيب بثقة: "شكرًا للربّ. بنعمة الربّ، أنا ما أنا". ثمّ يخفض يده، ويشير إليك، ويضعك أمام مسؤوليّة أخويّة: "وبصلواتك". هذه الكلمة، التي كان يقولها للكلّ من دون تمييز، كانت تخرج منه بثقة توازي ثقة إعلانه الشكر للربّ. فربّ الخوري عبد الله هو ربّ أخويّ!

في آخر زيارة إليه في المستشفى، كان وجهه أكثر انخفاضًا. قالوا إنّه استيقظ من غيبوبة لازمته أيّامًا عدّة. كلّمتُهُ. لم يردّ عليَّ بفمه، بل بيده. رفعها، ثم أشار نحوي بها. شكرَ للربّ، ودعاني إلى أن أصلّي له. كنّا قد صلّينا. أراد صلاةً دائمة. هل أُعلم بأنّه راحل؟ ما قلت إنّني أَعلمه أنّ ربّه أخويّ. يريد صلاةً تدلّ على أنّ العلاقة بين الإخوة في الكنيسة لا تنقطع. كان أبونا عبد الله يعرف أنّنا، في كنيستنا، لا نحصر انتصارات الله على كلّ ضعف في ما نراه. الصلاة ثقة بأنّ قوّة الله لا يحدّها أن نرى قوّته بعينينا دائمًا!

ذهب الخوري عبد الله إلى الفصح الدائم، إلى حيث كان ينتمي، وأرادنا أن ننتمي. في جنازته، كان المؤمنون جميعًا يعزّون بعضهم بعضًا بعبارة "المسيح قام. حقًّا قام!". لم يقل أحد منهم لفظًا إنّه علّمنا أن نغنّي الفصح في أوان الموت. أمّا وجوههم، فأعلنته معلّمًا أنّ المسيح الحيّ أقوى من كلّ موت.

شارك!
Exit mobile version