30مايو

بطرس الرسول، ضوء ثالث من العشاء الأخير

                بعد أن قال يسوع، في عشائه الأخير، "إنّ واحدًا منكم سيسلمني"، نظر التلاميذ بعضهم إلى بعض حائرين لا يدرون على مَنْ يتكلّم. فأومأ سمعان بطرس لتلميذ أحبّه يسوع، وقال له: "سَلْهُ على مَنْ يتكلّم". فمال ذاك نحو المعلّم من دون تكلّف، وسأله (يوحنّا 13: 21- 25).

                يدهشنا بطرس في إيماءته.

                كانوا كلّهم، في العلّيّة، معًا. كانوا متّكئين إلى الطاولة الممدودة. وكان واحد منهم، يسمّيه الإنجيليّ تلميذًا حبيبًا، متّكئًا على صدر معلّمه. مَنْ هو؟ لا يفصح. لا يفصح عمدًا. ربّما هو نفسه، وربّما آخر. ليس هذا ما يجب أن يشغلنا الآن. الآن، يجب أن يشغلنا، ويشغلنا كثيرًا، أنّ بطرس لم يطرح سؤاله على معلّمه مباشرةً. يبدو أنّه كان قاعدًا بعيدًا منه. فأشار إلى آخر، بحاجبه أو بيده، وطلب منه أن يفعل عنه. حيّره الخبر الذي سمعوه جميعهم. إذ كيف يُخان المعلّم؟ إذ كيف يموت الحياة؟ ويمكننا أن نتصوّر أنّ الخبر أدخل على الجلسة رهبةً رهيبة. رهبة، من علاماتها أنّ بطرس لم يرفع صوته. أومأ، وحسبُنا أنّه تكلّم همسًا. بلى، يمكن أن يكون قد استعان بمكان ذلك التلميذ، أو بمكانته. هل كانت عينا التلميذ إلى فم سمعان؟ يبدو أنّ الأمر كان كذلك.

                لن ندخل في معنى خبر الجلسة هنا، بل سنحاول أن نتأمّل في تصرّف بطرس.

                أومأ للتلميذ الحبيب، إذًا. وَمَنْ؟ بطرس! أومأ، وسأله أن يحمل سؤاله. الجوّ رهيب، قلنا. ولكنّ بطرس لم يشعرنا، مرّةً، بأنّ الرهبة أصمتته. دائمًا، كان عنده ما يقوله. لقد رأيناه، مرارًا، يكلّم يسوع وجهًا بوجه. رأيناه يبادر، يجادل، يصرخ، يسترحم، يسأل، يعاتب، ويعنّف. لِمَ، هذه المرّة، التجأ إلى آخر؟ هل سكنه، فجأةً، أنّ عشاء الله هدفه أن يرمينا على أحبّة الربّ؟ ولو أنّ ما نقرأه لا يبيّن ذلك علنًا، إلاّ أنّه يلزمنا أن نراه يتضمّنه. فالعشاء، عشاء الربّ، قيمته العظمى أنّه يجعلنا مع الربّ وأحبّائه في آن. تحرّك. أشار إلى آخر. كان يرى الربّ، ويسمعه. وكان، في الآن عينه، يرى الآخر(ين). يَرى، ويُرى. يَسأل، ويُردَّد سؤاله. بلى، الجلسة محورها ربّها. ولكن، بلى أيضًا، الربّ هو مَنْ يدفعنا بعضنا إلى بعض. عشاؤه يجعلنا واحدًا. يجعلنا نرى الآخرين. نرى منافعهم. نرى قربهم. ونرى أنّنا قادرون على أن ندعمهم في قربهم.

                أومأ بطرس، وهمس. رأى التلميذ الحبيب متّكئًا على صدر معلّمه، وَقَبِلَ قرباه من دون أيّ حرج. أقرّ بمحبوبيّته، وأراده عليها دائمًا. هذا أمر لا مثيل له. وهذا ما نحتاج إلى أن نتمثّل به دائمًا. نحن نحتاج، دائمًا، إلى أن نحبّ مَنْ يحبّهم ربّهم (أي جميع الناس). ونحن نحتاج إلى أن ندعم المحبوبين دائمًا.

                أومأ بطرس. نراه، ولا نشعر بأنّه فعل ما فعله بدافعٍ من فضوليّـة. حيّره قول معلّمه. رماه في قلق شديد. وأراد أن يعرف "على مَنْ يتكلّم". أراد الآن. لم يقوَ على الانتظار. فالجلسة لا تحتمل أن تضمّ مَنْ تشغلهم الخيانة. هل سأل مَنْ يحبّه معلّمهم اعتقادًا منه بأنّ قربه دلالة براءة؟ يجب أن نجيب بثقة: نعم. ويجب أن تدفعنا إجابتنا إلى أن نثبّت عيوننا على المحبوبين دائمًا، ولا سيّما متى اشتدّ ليل هذا العالم بهيميّة. بطرس أراد أن يعرف. لم ينطوِ على نفسه. لم يشغله، في سرّه، أن يعدّد أسماء الموجودين واحدًا فواحدًا، ليرى أيًّا منهم يمكن أن ينطبق عليه ما سمعوه جميعهم. التجأ، عبر آخر، إلى فم الربّ القادر على أن يجيب عن أيّ أمر. لم يطرح سؤاله على معلّمه علنًا. لو فعل، لَربّما بدا أنّ هدفه أن يبرّئ نفسه. جعل، بما فعله، نفسه واحدًا من المتّهمين. لا، لم يلتجئ بطرس إلى شخص يعرف أنّه محبوب كثيرًا، ليزكّي نفسه، ليجعل نفسه فوق أترابه المتّكئين معه، فوق كلمة المعلّم. وفي الواقع، لقد أفادنا إنجيليّ آخر بأنّ التلاميذ جميعًا، بعد أن سمعوا ما قاله الربّ هنا، أخذوا يشعرون بالحزن، ويسألونه واحدًا فواحدًا: "أأنا هو؟" (مرقس 14: 19). الكلّ كانوا يشعرون بأنّهم مقصودون. بطرس وسواه. كلّهم كانوا في حيرة، في حزن مرير. ومن قلب هذه الحيرة المُرّة، طرح بطرس سؤاله.

                أومأ. وأومأ عنّا أيضًا. فنحن يجب أن نرى أنفسنا في تلك الإيماءة القلقة. أومأ، أي أرادنا أن نرى أنفسنا تحت كلمة المعلّم. أرادنا أن نتّهم أنفسنا. وفيما نفعل، أرادنا أن نثبّت عيوننا على المحبوبين. أرادنا، قَبْلَ أن ينطق الربّ جوابًا قد ينطبق علينا، أن نتعلّم أنّ حياتنا إنّما هي انتظار، انتظار جواب.

                أومأ. قال، بما فعله، لنا:

                افحصوا أنفسكم باستمرار، وادخلوا عشاء ربّكم. وهناك، في العشاء، افتحوا آذانكم وعيونكم. فللمعلّم ما يقوله لكم دائمًا. و"متى سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم". احسبوا أنّ ما قاله يعنيكم. وإن استصعبتم أمرًا، حاولوا أن تستنجدوا كلّ مَنْ ترونه قريبًا من معلّمه. فأنتم يجب أن تفهموا كلّ شيء. وَمَنْ ستستنجدون به قادرٌ على أن يساعدكم على كلّ ما يجب أن تعلموه، ولا سيّما أن تدركوا أنّ القربى هبة ومسعى. لا تحسبوا أنفسكم أقرب من سواكم. إيّاكم أن تفعلوا. هذه انطلاقة خاطئة. كونوا إلى الإخوة في كلّ حين. وتعلّموا أن تكرهوا الخيانة في مظاهرها كلّها. ومن مظاهرها أن تبتعدوا عن الإخوة، أن ترفضوا قربهم، وألاّ تدعموا القريبين في قربهم. كونوا قريبين، لتنجوا في أوان الخزي. فإنّما العشاء، لتتعلّموا أن تزادوا في القربى وفي كلّ ما يقوّي فيكم الرجاء أن تتّكئوا إلى ربّكم في عشاء عرسه الأخير.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content