عندما رأى بولس الرسول أنّ قبول البشرى السارّة في أورشليم أفقرت كثيرين من أهلها، نادى كلّ المؤمنين، في غير كنيسة أسّسها جديدًا، إلى أن يُسعفوا إخوتهم "القدّيسين الذين في أورشليم".
كلّنا، إن حُزنا بعضًا من معرفة تاريخيّة أو تفسيريّة، قادرون على أن نُحسّ بقوّة هذا النداء، لا سيّما في ظلّ استكبار لا يمكننا أن نحصره بجيل من دون آخر. استكبار العرق والإثنية. استكبار الهويّة. استكبار الطبقيّة والاكتفاء بالذات... كان رسول الأمم قويًّا في طلبه أن يكسر المؤمنون الذين ناداهم، أينما حلّوا أو نزلوا، كلّ إلحاح لحم ودم بتذكيرهم أنّهم، بانتسابهم إلى عائلة الله أبي ربّنا يسوع، باتوا إخوةً لكلّ أترابهم في الأرض، وأوّلهم مَنْ قبلوا أن يموتوا، مثلهم، مع المسيح، ويقوموا معه في سرّ الجِدّة.
قلنا: "أفقرت كثيرين من أهلها". ومن دون ارتجال أو إحصاء، يمكننا أن نتبيّن أنّ ما قلناه صحيح، إن ذكرنا، فقط، كهنة الهيكل الذين طُردوا من وظائفهم حبًّا بيسوع ربًّا ومخلِّصًا. هذا يعني أنّ ما حرّكه بولس، بمنطق اليوم، دولٌ ربّما تعجز عنه. وهذا، تاليًا، يبيّن لنا كم كان، حرًّا، واثقًا بفعل الله في الإخوة الذين أحبّوه. وما يزيد حرّيّته وثقته بيانًا أنّه لم يتّكل، في ندائه، على بلاغة لغة. فالرجل قال إنّه "لم يأتِ إلى أحد بسموّ الكلام". بلاغته أخرى. بلاغته صدقه في إيمانه بالله ومحبّته ونقلهما. يمكننا أن نتصوّره يلقي نداءه عاريًا من كلّ قوّة تقنع أهل الأرض. هل استُجيب؟ بعض عبارات الفرح والشكر التي وزّعها، في رسائله، هنا وهناك، تؤكّد أنّ ثمّة كنائس أطاعت نداءه حبًّا. أطاعته، أي أطاعت أنّ أعلى ما يرضي اللـه، فـي هـذه الدنيـا، أن نـدرك أنّ الإنسـان، كـلّ إنسان، هو "لحم من لحمنا وعظم من عظمنا"، فنحبّ الله فيه.
هذا لا نستعيده في هذه السطور، لننتشي بتذكّره، أو لنتفاخر بإنجازات قوم، نأتي منهم، أرادونا أن نعي أنّ المحبّة طبيعيًّا تُحيا. ولكنّنا نضعه، أمام عينينا، لنبقى واعين أنّ ما نعرفه من أحداث البرّ التي جرت في الكنيسة الأولى (وفي غير زمان ومكان)، إنّما الله رسم لنا فيه أن ننتهجه، هو هو، حياةً لنا.
أمّا إن كان هذا نهجنا، فنحن اليوم، أي اليوم قَبْلَ غد، مدعوّون إلى أن ننظر إلى وضع الناس، لا سيّما في هذا المشرق العربيّ المعذَّب: العراق، مصر، وسورية... أي نحن لا سيّما المسيحيّون في لبنان الذين عرفنا الحرب والجوع والتشرّد والنزوح والهجرة والموت. فنحن، عظماء في الألم خبراء في الصبر على الشدّة، يُنتظر منّا أن نهرب من كلّ ما يجعلنا نكتفي بمشاهدة ما يجري حولنا إن متأسفّين أو حائرين، ونسعى إلى إسعاف أيّ أخ عربيّ، أجل أيّ أخ، يذوق، اليوم، ما ذقناه نحن أنفسنا في سنوات طويلة.
ماذا علينا أن نفعل؟ طبعًا، مَثَلُ بولس، الذي أقمنا عليه هذه السطور، يبيّن، بما لا يقبل جدلاً، أنّ الأمور الكبرى، التي تعنينا وتعني سوانا في الأرض، لا تحوَّل كلّيًّا إلى آخرين، أيًّا كانوا. عادةً، نحن شعب يحبّ معظمنا أن تُرمى أمورنا على سوانا. لن أردّ، سلبًا، على هذه العادة. فما من إنسان واقعيّ يمكنه أن يحتكر عمل الخير، أو أن يرفضه إن أتاه غير مشروط، بل عليه أن يبارك فيه. ولكنّنا، في غير حال، لا نكون أحياء حقًّا، واعين أنّ ثمّة مصيرًا واحدًا يجمعنا في هذا المدى العربيّ، إن أغلقنا آذاننا وعيوننا عمّا يجري فيه، أو اعتبرنا أنّ عمل الخير يعني سوانا حصرًا. فماذا علينا أن نفعل؟ سؤال يخصّنا نحن أوّلاً.
كلّنا نعلم أنّ السياسة تسري في شرايين معظم الناس في العالم. أتصوّر، وسواي يعلم أكثر منّي، أنّ هذه الصراعات العربيّة فرزت، وتفرز في كلّ يوم، أناسًا إلى هذا الطرف أو ذاك. ويموت الذين لا ينتمون إلى أيٍّ من هذين الطرفين. ويموت المنتمون، إن تركوا إهمالاً أو كيدًا أو انتقـامـًا. ونحـن، إذا لم تُعلّمنـا أحـداث مرّت حدّةُ مرارتها علينا (ولمّا تمرّ آثارها كلّها!)، فمن الممكن أن يشارك بعضنا في لعنة الإماتة. ولا أعني بالمشاركة أن يدعم بعضٌ هذا الطرف أو ذاك، بل إدارة الوجه عن الآلام فقط. هذا ليس كلامًا في السياسة، بل في المحبّة الإلهيّة (أو الإنسانيّة) التي تأمرنا بأن نبتعد عن كلّ ما ينسينا ما يرغب فيه الحقّ. وهل للحقّ من رغبة تفوق أن نخدم الحياة في الأرض؟ في هذا العالم، ثمّة نوعان من الناس: نوع يخدمون الموت (ولا نفصل عنهم الذين اختاروا أن يكونوا على هامش الوجود!)، وآخرون يخدمون الحياة.
لا أودّ، بما أقوله هنا، أن أستبق، بسلبيّة جارحة، نتيجة أيّ تحرّك إنسانيّ، قام أو يمكن أن يقوم. فنحن المسيحيّين، وإن رأينا الليل دامسًا، لا يمكن أن ندعو إلى التشاؤم، بل إلى الرجاء. هذا الرجاء هو ما يجعلنا ننتظر، بثقة كبيرة، أن يسعى إخوتنا، جماعاتٍ وأفرادًا، حيث هم، في الدول أو الكنائس أو أيّ هيئة تعنى بعمل الخير، إلى أن تكون لنا مواقف تبدينا لا نتأثّر بسوى ما يرغب الله فيه (أن تُخدم الحياة). كلّ موقف آخر، أيًّا كان ما يحرّكه، نقبله أو نسعى إلى نشره، يقطعنا عمّا يرغب الله فيه، ويرمينا في التفه. فنحن نأتي من إله لم يورثنا سوى المحبّة الفاعلة. وأيّ أمر، يغرينا، نزينه بميزان إرثنا فحسب، ثمّ نقرّره أو نرفضه. اليوم، وضع الله ميزانه أمام عينينا. مشاهد الموت والخوف، والقلق على غد ضبابيّ، لا تسمح لنا بأن نراها كما لو أنّنا لا نراها. الحياة، لنستحقّ الحياة حقًّا، علينا أن نخدم الحياة. أيًّا كنّا، وأنّى كنّا، مقتدرين أو قوتنا خبزنا، يقول الله لنا اليوم: "إن كنتم تؤمنون بأنّني حياتكم فعلاً، فأريدكم أن تمدّوا أيديكم ملأى إلى أفواه تنادي. فالذين في خطر اليوم، إلى أن يعمّ أمنهم وسلامهم، هم صوت بولس حبيبي"!