الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

صديق نصف الليل

[quote font_style="normal"]"وقال لهم: مَن منكم يكون له صديق فيمضي إليه عند نصف الليل، ويقول له: يا أخي، أقرضني ثلاثة أرغفة، فقد قدم عليّ صديق من سفر، وليس عندي ما أقدّم له، فيجيب ذاك من الداخل: لا تزعجني، فالباب مقفل وأولادي معي في الفراش، فلا يمكنني أن أقوم فأعطيك. أقول لكم: وإن لم يقُمْ ويعطِهِ لكونه صديقه، فإنّه ينهض للجاجته، ويعطيه كلّ ما يحتاج إليه" (لوقا 11: 5- 8). [/quote]

            يأتي هذا المثل، الذي ينفرد لوقا بذكره في العهد الجديد، بعد الصلاة الربّيّة مباشرة. وهذا ما جعل الكثيرين يفهمون أنّ معناه يتعلّق، تحديدًا، بالصلاة.

            ما نستشفّه، بدءًا، من هذا المثل هو أنّ الصلاة الحقيقيّة هي الصلاة الواثقة بأنّ الله سميع مجيب، وأنّها تفترض، في جوهرها، تحرّك القلب نحو الله ولجاجة في الطلب. وهذا يعني أنّها لا تتوافق والكسل، أو الملل الذي يسمّيه القدّيس كيرلّس الإسكندريّ "نوعًا من الغباء". فالملل الغبيّ شيمة الذين يصلّون، ليُستجابوا فقط، وليس ليُطيعوا. والصلاة استسلام لإرادة الله، وليست تطويعًا له. يقول الربّ، في الصلاة الربّيّة، صلّوا: "لتكن مشيئتُكَ". وهذا، كما بيّنا معناه، يفترض أن يوافق المؤمن مشيئة الله، ويخضع لها، دائمًا، من دون ضجر أو تذمّر.

            والواقع أنّ هذا المثل يفيد، في آنٍ، الذين يصلّون والذين لا يصلّون حقًّا، أو يصلّون ويملّون. هو يفيد الذين يصلّون لأنّه يعزّز قناعتهم بأنّ حياتهم تقوم على مخاطبة الله. هؤلاء يعرفون أنّ الصلاة هي "سكب للنفس أمام الله" (1صموئيل 1: 15)، وواحدة من أهمّ التعابير عن محبّتهم إيّاه وإيمانهم به شخصًا وبحضوره الحيّ والفاعل. وهذا عندهم أساسه أنّ الله هو الذي يحبّهم أوّلاً، وأنّه هو المعطي بسخاء والقادر على أن ينتشل الواثقين به من كلّ ضيق أو كدر أو خطر، وهو تعزيتهم الحقيقيّة في زمن المحنة، والذي يقيمهم في الفرح الذي لا يزعزعه شيء. والمثل، تاليًا، ينفع بخاصّةٍ أولئك الذين يتوانون في الصلاة، ويملّون بسرعة، الذين لا يعرفون أن يميّزوا بين حبّ الله واستجابة طلباتهم. فهم، إذا طلبوا في الصلاة أمرًا (وهذا شرعيّ)، أو ضاقت بهم الأيّام أو عصفت بهم المصاعب، يطلبون، ولكنّهم يريدون أن تستجاب إرادتهم توًّا، أو يملّون ويوقفون كلّ توسّل، "لأنّه برأيهم لا ينفع". هذا المثل ينفع المتوانين والذين يملّون الصلاة بسرعة إذا ما صححّوا نظرتهم إلى الله، ورأوا أنّه الربّ الرحيم الذي يسوس العالم بمحبّة حكيمة، وأنّه الملجأ في كلّ حال.

            أجل، إنّ المؤمنين الحقيقيّين يعرفون أنّ الله يعلم ما يحتاجون إليه حقًّا قبل أن يسألوه، ولكنّهم يسألونه أمورهم طاعةً لإرادته المجيبة، لأنّهم يعرفون، في أعماقهم، أنّهم عاجزون من دونه، وأنّهم يريدون كلّ شيء عطيّة منه. فيطلبون، بلا ملل، واثقين بأنّ صمت الله أحيانًا هو جواب كامل، وليس أنّه لا يسمع أو لا يهتمّ، أو أنّه (صمت الله) إشارة إلى عدم جهوزهم أو استحقاقهم. فيصبرون، أو يصحّحون أحوالهم، ليكونوا على قدر النعمة. والله لا يعطي مَن لا يفهم عطاياه أو يقدّرها تقديرًا كبيرًا، لئلاّ تُتْلَف نعمه. وهو، في كلّ حال، يريد أن يدرك المؤمنون أنّهم محفوظون بمحبّته، وأن يشعروا بأنّ محبّته، التي لا يوازيها شيء، هي تكفيهم وحدها.

            معرفة أنّ الله يحبّ الناس هي، في الحقيقة، الدافع الأوّل والأخير إلى الصلاة، وإلى المثابرة في الصلاة. وكلّ إبطاء في تلبية طلباتنا نظنّ أنّ الله يمرّرنا به يجب أن نعيده لحكمته، وأن نصبر عليه. فالصبر هو عطيّة منه أيضًا، وربّما لا نعرف، في أحيان كثيرة، أنّه ضرورة من ضرورات المحبّة والجدّيّة. والصبر يعلّمنا أنّ كلّ ما يناله المرء بسهولة قد يحتقره بسهولة، وما يحصل عليه بعد جهد تكون له قيمة أكبر عنده. وما يدعم فكرة الصبر هذه أو المثابرة في الطلب، هو قول الربّ توًّا بعد هذا المثل: "اقرعوا يُفتَح لكم...". والقرع يفترض، في أحيان كثيرة، تكرار القرع، ولا يعني، بالضرورة، أنّ مَن نرغب في لقائه هو لا يسمع أو غير موجود. ومَن يقف وراء باب الصلاة، هو الله الذي يسمع دقّات قلوبنا، ويرغب في أن يفتح لنا. ولكنّه يريدنا أن نقرع، ونقرع، لندرك "نحن" أنّنا نريده حقًّا أن يفتح، وأنّنا نريده، أنّنا نريد "الروح القدس" (لوقا 11: 13).

            والله، في واقع الحال، لا يحتاج إلى إلحاحنا ليُجيب. والإلحاح اضطراب وقلق لغير المؤمنين. أمّا للمؤمنين، فدلالة على زيادة رغبتهم في محادثة الله وثقتهم به. وهذا، عندهم، يأتي في سياق طاعتهم الوصيّة (1تسالونيكي 5: 7). ولا أريد، في هذا القول، أن أدّعي أنّ المؤمنين الواثقين بالله والمحتاجين إلى رحمته (وكلّ إنسان مؤمن يحيا من رحمة الله) لا يصيبهم قلق إذا ما طال انتظارهم، لكنّ قلقهم يكون ممزوجًا بالثقة والفرح. هؤلاء (المؤمنون) لا يظنّون - كما بعضُ الناس الغرباء عن الحقّ - بأنّ الله يفرح بالنظر إليهم وهم قلقون ومضطربون. فهذا عندهم ليس من خصائص الله، لكنّ النفس المظلمة تفكّر على هذا المنوال. وهم يفرحون بالصلاة التي لا يحدّها وقت، ويصبرون، وهم، في كلّ حال، يشعرون بأنّ الله يشرّفهم بأنّه يسمح لهم بأن يخاطبوه. وهذا، وحده، غناهم وتعزيتهم وفرحهم.

            يدعو الربّ، في هذا المثل، المؤمنين به "أصدقاءه" (أو أخوته)، ليفهمنا قُرْبَهُ. فمَن تنازل وقبل أن يكون صديقَكَ (أو أخاك)، يمكنكَ (أو يجب) أن تكلمّه متى شئت، وأن تثق بمعونته دائمًا.

شارك!
Exit mobile version