الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

صاحبي

                لمّا دعوتُكَ إلى أن تواظب على قراءة الكتب، لم أحثّك على سوى كتاب واحد، الكتاب المقدّس. وهذا خيار دفعني إليه إيماني بحرّيّتك الشخصيّة واحترامي ذوقَكَ. ومن دون أن أبتعد عن دافعي، سأسمّي لك، في هذه السطور، كتابًا له في قلبي مكانة عالية.

                يعنيني، قَبْلاً، أن أذكّرك بأنّك سمعتَني، مرارًا، أميّز بعض الكتّاب الكبار، كأمثال فيدور دوستويفسكي. لن أستغرق، هنا، في الكلام على هذا الكاتب الروسيّ الفذّ الذي يُعتبَر أنّه ساعد أترابه، في أزمنة عقيمة، على أن يعرفوا بعض آثار ربّنا يسوع. لم يكن دوستويفسكي، حينئذٍ، حيًّا. فقد استأثر الله به قَبْلَ أن يخرج مَنْ خرج مِنْ بني جنسه على حقّ إلهنا. لكنّ كتاباته، التي نفدت أولى طبعاتها الكاملة إثر "الثورة" بعد ظهر يوم واحد، أحيت كثيرين في العالم، ولا سيّما منهم الذين مجّوا شرّ المضطهِد العاتي الذي منعهم من أن يبنوا قلوبهم بقراءة الكتب المقدّسة، أو يصغوا إلى حديث يحكي لهم قصّة حبّ إلههم ببلاغة روسيّة. وفيما تعرف أنّ مؤلّفاته قد نُقلت كلّها إلى لغتنا العربيّة، أعبر راجيًا منك ألاّ تسمح لنفسك بأن يمضي عمرك من دون أن تكون قد قرأتَهُ.

                أمّا الكتاب الذي أقصده، فهو كتاب وضعه "ملاك" أنطاكيّ كلّفه ربّه، في أواخر الربع الثاني من القرن المنصرم، أن يذكّر بني جلدته برسالة "النهضة" المحيية. وهذا الكتاب، الذي صدر عن "دار النهار للنشر والتوزيع" وترجم إلى لغات عدّة، سمّاه صاحبه: "لو حكيتُ مسرى الطفولة".

                تعال أخبرك لِمَ أردتُ أن أخصّص هذا الكتاب.

                يوم دلّني بعض إخوتي المعتبَرين إلى أن أقرأ هذا الكتاب، كانت لغتي العربيّة ركيكةً جدًّا. وعلى ذلك، وفّقني الله إلى فهمه، وتاليًا إلى حفظِ بعضِ مقاطع منه شهيّة. ليس عليك أن تسألني عن إمكاني فهمي إيّاه. فحسبي أنّك ما زلتَ تذكر أنّ عِشرة إخوتي، ولا سيّما الذين كنتُ أعود إليهم في كلّ صعوبة تعتريني، أعطتني أن آلف اللغة الكنسيّة. وحتّى لا أخرج على وضوحي، يعنيني أن تعرف أنّني لا أذكر لك لغة الكتاب، وفي بالي أن أجعلك تعتقد أنّ بلاغته اللغويّة هي التي تحصر قيمته عندي. فاللغة استعمالها. وفي عالم يتكلّم العربيّة، تبقى دعوتنا أن نمشي فيها مشيًا سويًّا، لنحسن توضيح ما نؤمن به، ببلاغة، إلى إخوة نحبّهم.

                أمّا قيمة الكتاب عندي، فيحكمها أنّ واضعه صائغ ماهر من كنيسة شرقيّة كان آباؤها يصوغون فكر إلههم لآلئ ثمينةً، ويوزّعونه على المؤمنين، مجّانًا، من دون مكيال.

                هل أعلّي نفسي إن ذكرتُ لك أنّني قرأتُهُ مرّاتٍ عديدةً، وأنّني، على ذلك، كنتُ، إذا كلّفني إخوتي أن أقود اجتماعًا من اجتماعاتنا، أتّكئ على بعض باباته؟

                لا، لا أعلّي. فالكتاب شهيّ كـ"جزء من سمك مشويّ وشيء من شهد عسل". وإن كان هذا حالي، لا يعيبني أن أضيف أنّي لم أكن أفعل إن كان عليَّ أن أتكلّم في موضوع ورد ذكره في هذا الكتاب فحسب، بل دائمًا.

                كنتُ أشعر بأنّني، إن قرأتُ منه، فسيطهّر الله فمي (فمي وكلّ ما ينبض فيَّ). فأنت لا يمكنك أن تتكلّم، في أمور الحقّ، إن لم يرسل الله إليك "ملاكًا"، وبيده جمرةٌ أخذها بملقطٍ من المذبح، ويمسس بها فمك النجس.

                كان ذلك الكتاب جمرتي.

                إذًا، أدعوك إلى أن تدني هذه الجمرة من فمك. وإن قبلتَ دعوتي، فقبولك يعفيني من أن أقدّم لك، الآن، قراءةً في الكتاب. أستودعك قراءته، وأترك لنفسي أن أكلّمك، ولو قليلاً، على حلاوته. حلاوته، أو حلاوة واضعه، لا فرق. فالإنسان ما يعمله ويعلّمه.

                من ضمن ما تركتُهُ لنفسي أودّ أن أذكر لك أنّ أحد معارفي سألني، مرّةً: هل أقنعك صاحب "لو حكيتُ مسرى الطفولة" بمقالته الأخيرة (وهي إحدى مقالاته التي يكتبها أسبوعيًّا في جريدة لبنانيّة)؟ أجبتُهُ من دون انتظار: "يقنعني قَبْلَ أن أقرأه".

                هل تعرف لِمَ؟

                لأنّني تعوّدتُهُ قَبْلَ أن أقرأه، أو حتّى قَبْلَ أن أراه، وأسمعه.

                كان الشباب، الذين دفعوني إلى أن التزم، يردّدون كلماته في معظم اجتماعاتنا. كانت كلماته تتضوّع، في تلك القاعة العتيقة التي تجمعنا، كما العطر الذكيّ. وألفيتُ نفسي أعرفه قَبْلَ أن أعرفه. وجدتُني أهوى الحلاوة، أهوى الإقامة في بستانٍ أزهاره عطرة وعصافيره لا تتوقّف عن الزقزقة. ويوم مسكتُ بيدي الكتاب الذي أكلّمك عليه، اكتشفتُ الواحة التي أعوزها في صحراء المدينة التي كنتُ أحيا فيها.

                كان الكتاب رفيقي، وما زال. مكانه هو هو: قرب سريري. ولا أخفي عنك، يا بنيّ، أنّ حلاوته كانت لي شغفًا وعذابًا في آن. شغفًا يحرّكني إليه جوعي إلى الحلاوة. وعذابًا تسكبه في نفسي رؤيتي إلى قامتي الوضيعة.

                كنتُ قد تعلّمتُ أنّ الله أراد "أن يخبر عن سعة مجده في آنية الرحمة التي سبق أن أعدّها للمجد". وكنتُ أقرأ في إنائي الذي ما زلتُ أراه "خسيس الاستعمال" كثيرًا.

                هل تعرف كيف أحاول أن أداوي عذابي؟

                سأخبرك.

                أحاول بالتزامي اعتقادًا قادني إليه عطف الله، اعتقادًا مفاده أنّ ما يصل إليك إرثًا في "إناء شريف الاستعمال" يجب أن تراه فوقك، أعلى منك، أصعب من أن تقدر على تنفيذه.

                يا لَهذا العذاب!

                تصوّر!

                لا، لم أفهم أنّ محاولتي تشرّع لي عدم الجهاد، بل تلزمني أن أجتهد في جهادي. تلزمني أن أتوب إلى مَنْ "كلّ شيء مستطاع عنده". تلزمني أن أفتح قلبي لِمَنْ يقف على بابه، ويقرع.

                تصوّر! تصوّر قيمة الكلمات التي تحضّك على أن تأتي إلى الإله الكلمة، أو التي تُحضره إليك!

                كان هذا الكتاب لي، أو بات "صاحبه"، شغفًا وعذابًا، حتّى يداوي شغفي عذابي، وأسكن إلى الصحّة، أي إلى مسيح الله الذي، إن فتحتَ له باب قلبك، يدخل عليك، "ويتعشّى معك، وتتعشّى معه".

                كتاب هو أو مائدة؟

                أنا لا أطرح عليك أحجية.

                يجب أن تعرف أنت من دون جهد.

                يجب أن تعرف أنّ هذا الكتاب، أو أنّ واضعه، قد وضعته "المائدة"، حتّى يكون مائدةً تدفع عنّا ذلّ الجوع. فاقرأه إن شعرتَ بالجوع، أو جعْ، حتّى تشتهي قراءته. فالكلام الطيّب هو الذي يشبعك، أي يريك المائدة التي، إن التزمتَها، تحيا في شبع أبديّ. فملكوت الله مائدة. وهذا يمكننا أن نرتقي إليه بسلَّم نصبته "الملائكة" في أرض غربتنا، لنتّقي شرّ الغربة، ونتصاعد درجةً درجةً، نتصاعد إلى فوق، إلى المسيح الذي يرافقنا، وينتظرنا.

                يا بنيّ، هل فهمتَ أنّني أدعوك إلى أن تقرأ كاتبًا، أي كلّ ما خطّه مَنْ حكى مسرى طفولته، أو المسرى الذي يردّنا إلى طفولتنا، لنكبر بالله؟

                حسنًا! هنيئًا لك بفهمك.

شارك!
Exit mobile version