1مايو

شفاء أعمى أريحا

            كان أعمى بالقرب من أريحا "جالسًا على الطريق يستعطي". هذا يعني أنّه كان مريضًا، فقيرًا ومتروكًا، ليس له من معين يعضده ويعيله. إنّه أعمى ووحيد (لوقا 18: 35- 43).

            "فلمّا سمع الجمعَ مجتازًا، سأل: ما هذا؟". المعنى الظاهريّ لهذه الآية أنّ الأعمى يتّصل بالعالم عبر أذنيه. لكنّ العبارة توحي بما هو أعمق. وهذا أنّ الجمع المتحلّق حول يسوع هو الذي أثار الرجل. الجماعة لا قيمة لها إن لم تُثر العالم، وتجعله يطرح أسئلة عليها وعلى نفسه، و(لا قيمة لها) إن لم تكن قادرة على تقديم الجواب الشافي. "فأخبر بأنّ يسوع الناصريّ عابر". هذا هو الجواب. جمع، وبالضرورة عدده كبير، يجيب عن سؤال الرجل بإلغاء ذاته والدلالة على يسوع. شأن الجماعة، أوّلاً، أن تجيب عن كلّ سؤال يتعلّق بخلاص العالم. وهذا غير ممكن إن لم يكن يسوع عندها هو كلّ شيء. إن لم توحّد نفسها به. ليس المسيحيّون شيئًا. المسيح هو كلّ شيء. هم يصبحون شيئًا إن أدركوا هذه الحقيقة الوحيدة، وإن دلّوا الناس على جامعهم ومصدر رجائهم. المسيحيّون جسر للعالم، ليصل إلى يسوع. هذا هو كيانهم الحقيقيّ وعملهم في هذا العالم.

            "فصرخ قائلاً: يا يسوع ابن داود ارحمني". ماذا يحتاج الإنسان في هذا الوجود؟ إلى أن يرحمه يسوع. والرحمة، في معناها الكتابيّ، تفترض أن نؤمن بأنّ الربّ هو الذي يعطينا وجودنا. هو يلدنا من جديد، فيه. لقد أدرك هذا الرجل، بسرعة مدهشة، ماذا يريد مَن يسوع. كيف نستطيع نحن أن نستفيد من عبور يسوع في حياتنا، لنغرف منه ما يحيينا؟ هذا هو السؤال الأهمّ الذي نتبيّنه من كلام هذا الأعمى. فيسوع يغريه مِثل هذا الدعاء الذي ينبع من القلب. أريد أن ترحمني، أي أريدك أن تدخلني فيك، أن تخرجني منك، أن تحييني. المؤمن الحقيقيّ ليس له طلب آخر.

            انزعج الناس من صراخ الأعمى، فكرّر طلب الرحمة. يسوع يريدنا رغم كلّ صعوبة أن نثق به. فهو لا يردّ خائبًا كلَّ مَن يسأله الرحمة بإصرار. ولذلك، يتابع لوقا، فورًا، أنّ يسوع "أمر أن يقدّم إليه". هو يكلّم الناس، جماعته، يأمرهم بأن يقدّموا إليه هذا المحتاج إليه. هذا يوافق تمامًا ما أوردناه أعلاه. فالربّ يريدنا أن نأتي إليه بالناس الذين يحتاجون إليه، أن نقرّبهم منه.

            "فلمّا قرب، سأله: ماذا تريد أن أصنع لك؟". طبعًا، يسوع يعرف ما يحتاج إليه هذا الرجل (ويعرف ما يحتاج إليه أيّ إنسان آخر). فمنظره لا يخفيه. لكنّه طرح عليه سؤال، لأنّه يريد أن يسمعنا نعترف بقدرته وبِمَ نرغب في أن يفعله لنا. فقد نظنّ، في بعض أوقات ضعفنا، أنّ مشاكلنا لا تنتهي، وليس لها من حلّ. يسوع يؤكّد أنّ علينا أن نؤمن به، وأن نقدّم إليه مشاكلنا ومشاكل الناس الذين نعيش وإيّاهم. إنّه الحلّ. "فقال: يا ربّ، أن أبصر". لم يقل له أحد إنّ الذي يكلّمه هو الربّ. قال له الناس الآن "إنّ يسوع الناصريّ عابر". مَن قاده إلى هذا الاعتراف؟ هل سمع تعليقات بعض أتباعه وما جرى عن يده من معجزات تدلّ على ربوبيّته؟ هذا ممكن. لكنّ النصّ لا يقول شيئًا من هذا، بل يعرض علينا أن نستنتج ما يراه واضعه أمرًا أكيدًا، وهو أنّ لقاء أعمى أريحا بيسوع هو الذي قاده إلى إيمانه به ربًّا. لا يكون الإيمان حقيقيًّا وكاملاً ما لم نلتقِ بيسوع. الجماعة، لا شكّ، دورها أن تهيّئ لنا أن نلتقي بيسوع. لكنّ الخبرة العميقة تُكتسب بلقائنا به شخصيًّا.

            "فقال له يسوع أبصر، إيمانك خلّصك". أي أنّك خلصت بما أودعته في قلبك، إيمانك. فالإيمان لسنا نحن مصدره. الربّ ينعم به علينا إذا اقتربنا منه، وحدّثناه، وقلنا له، بثقة، كلّ ما يختلج في قلوبنا: إنّنا نحبّه، ونؤمن به وبالخلاص الذي يأتينا منه وحده. والحقيقة أنّ الرجل، في هذا الطلب، لم يطلب شيئًا يُضاف إلى الرحمة. وذلك بأنّ رحمة الله تظهر في حياتنا بطرائق متنوّعة. وهذا الرجل نالها من طريق الشفاء.

            ما يبقى من هذه الحادثة غاية في الإثارة. يقول لوقا: "وفي الحال أبصر وتبعه وهو يمجّد الله". يسوع لا يؤجّل شفاءنا. يتمّه "في الحال". ولكنّ الرجل أدرك أنّ الشفاء ليس حاجته الوحيدة. اكتشف ما لم يكن يتوقّعه. اكتشف أنّ يسوع هو أهمّ من الشفاء، فترك كلّ شيء، وتبعه "وهو يمجّد الله". الشفاء الأعظم، أو الشفاء الحقيقيّ، هو أن نتبع يسوع، أي أن ننخرط في جماعته ونحيا في تمجيده، أي أن نعرفه إلهنا، ونخصّص له حياتنا كلّها. كان الرجل، في البدء، جالسًا على قارعة الطريق يستعطي. أمّا الآن، بعد شفائه، فقام يسير وراء يسوع. الغاية أن نقوم، ونعدو وراء يسوع، ونمجّد الله، أي أن ندلّ عليه إلهًا في وسط جيل مقعد يظنّ أنّه شيء، وهو من دون الله ليس بشيء. ثمّ إنّ "جميع الشعب إذ رأوا سبّحوا الله". كيف تنعكس حياتنا الجديدة على الجماعة التي نحيا معها، فتسبّح الله على عطاياه؟ هذه هي غاية كلّ شفاء.

            العمى الحقيقيّ والوحدة الحقيقيّة هما في تجاهل يسوع والحياة بعيدًا منه. هذا الرجل، الذي كان قَبْلاً فقيرًا وأعمى، أدرك أنّ المسيح هو نور العالم، وأنّ "مَن يتبعه لا يمشي في الظلام"، ولا يحتاج إلى شيء، فسار معه وانخرط في جماعته، ليبقى في النور.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content