تلك الشرفة، التي كان شيخهم يستقبله فيها، كانت أشعّة الشمس تخترقها من نافذتها الكبيرة، أشعّة الشمس وشدو الطيور الصغيرة. كان يفتقد، في المدينة التي يقيم فيها، هذا الجوّ الهادئ. فأحبّ الهدوء. صار، إذا صعد إلى الدار، ترتاح روحه. وإذا عاد إلى مدينته، تنكمش من حرارة بلا نار، ومن ضوضاء مضنية. الناس في المدن، أو معظمهم، ضحايا اضطراب تلو اضطراب. يقيمون في الوسط، ويهملون "الزوايا" التي يلفّها الهدوء!
كان، متى نَسَكَ الدار، يذهب به فكرُهُ، في غير مرّة، إلى صوامع الرهبان. كان يعرف أنّ المستوحدين إنّما يهجرون المدن واكتظاظها الشديد وضجيجها المرهق، ليختاروا أماكن إقامتهم في أعالي الجبال. يجاورون السماء. يقصدون أن يهدأوا في الله القائم في قلوبهم. يؤثرون الصلاة نهج حياة وقوت حياة. والصلاة هدأة، أو استباق هدأة. إنّها أن تصبو إلى بركات الهدوء الأخير. إنّها أن تذوق طيبه المتضوّع "الآن وهنا". إنّها أن تُصمت ضجيج الشياطين التي تزأر إن أحسّت بـ"وقوفك أمام باب الملك"[1]. إنّها أن تستريح في الله "المستريح على أرائك التسبيح". لم تكنْ لهذا الذهاب علاقة بكون الكنيسة قد أخذت، منذ نهاية القرن السابع، تختار الأساقفة من الكهنة العازبين حصرًا[2]. لكنّه ذهاب يفترضه موقع الدار، ولا سيّما شيخها.
في كلّ زيارة يقصد أن يراه فيها، كان يشعر بأنّه يقطع "خلوة". يشعر، ويدخل. هو لم يعتذر، مرّةً واحدةً، عن شعوره! لم يخطر بباله أن يفعل! وَلَكَـأنّه صار يحبّ أن يقطع! فكّر، يومًا، في أنّه أنانيّ. ثمّ تراجع عن فكرته. تراجع بسرعة! إنّه، هنا، طالب. طالب، وحقّه أن يدخل، وأن يقطع. هذا حقّ سُمح له به. وكان هو يستعمله دائمًا. يستعمله من دون أيّ خجل!، أو صار كذلك. كان يريد أن يهدأ. فـ"كلمات الحكماء تُسمع في الهدوء" (الجامعة 9: 17). وإن كان شيخهم قد سمح له بأن يدخل عليه إذا احتاج إلى شيء، وأن يدخل "متى شاء"، فعليه أن يطيعه! الطالب هو مَنْ يطيع. يطيع، ليتعلّم الهدوء، "هدوء القلب" الذي يحيي الجسد (أمثال 14: 30)، و"يسكّن خطايا عظيمة" (الجامعة 10: 4). عليه أن يتعلّم، ليهدأ. إن لم يفعل، فمن الصعب أن تتنقّى أفكاره[3]. من الصعب أن يشدو!
من الشرفة المُطلّة، ومن نافذة غرفته الواقعة في الطبقة السفلى، كان يرى الطيور تحلّق، فوق بضع شجرات صنوبر، ويسمعها تشدو بأصواتها.
لماذا تشدو الطيور؟
كلّ مَنْ كتبوا عن شدو الطيور تكلّموا على فرحها بكونها حرّة. ومنهم مَنْ قال إنّها تزقزق، لتجذب لها شريكًا، وتتكاثر. وبعضهم رأى أنّ شدوها نوع من تسبيح (مزمور 148: 10). لكنّ الذين كتبوا قصدوا الطيور عمومًا. لم يحدّدوا! "يبدو أنّهم لم يعرفوا الطيور التي يراها، ويسمعها! لو عرفوا، لربّما قالوا أشياء أخرى أيضًا! لربّما زادوا أنّ ثمّة طيورًا صغيرة، في جبل لبنان، فرحى بجارٍ لها". ردّد هذا، في سرّه، يومًا. وأخذه فكره إلى قول الربّ: "انظروا إلى طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماويّ يرزقها" (متّى 6: 26). لم يشعر بأنّ هذا القول يخالف ما فكّر فيه، بل رأى أنّه يوافقه. فالطيور فرحى بجارٍ يخدم الله الذي يرزقها. هذا هو حالها بكلّ تأكيد!
كان يعرف أنّ ثمّة كتّابًا كنسيّين شبّهوا يوحنّا كاتب الإنجيل الرابع بالعُقاب الذي رآه حزقيال النبيّ (10: 14). وَمَنْ شبّهوا، أرادوا أن يشيروا إلى قدرته على التحليق في سماء معرفة الله. ثمّة، إذًا، معنًى آخر للطيور التي تشدو فيما تحلّق: أن يتكلّم المرء، في الله، كلامًا عاليًا. وهذا يجب أن يقصده كلّما أتى الشرفة. يجب أن يرجو التحليق والشدو العالي، ليتمكّن من خدمة الكنيسة كما يليق.
كان قد علم، من رفقة رعيّته، أنّ معظم المؤمنين، في كنيستهم، كانوا، منذ زمان ليس ببعيد، يشدون، ولكن من دون تحليق! شيخهم، أكّدوا له، هو الذي نادى بالتحليق، أي بالمعرفة، ليصحّ الشدو، ويعمق، ويحلّي القلب، وينعش شوقه، ويجدّد انتباهه. لقد كان شيخهم نسرًا حقيقيًّا. وعليه أن يسلّم نفسه لفمه، ليحمله، ويعلّمه ما يجب أن يعلمه. عليه أن يجاوره كلّما سنحت له الفرصة. عليه أن يتعلّم من تلك الطيور الصغيرة أن يفعل! عليه أن يطمح إلى أن يصبح طيرًا صغيرًا ينادي، في الكنيسة، بالحرّيّة الحقيقيّة التي تجعل الناس أولادًا حقيقيّين لله (رومية 8: 21). لم يعتبر، في قلبه، أنّ طموحه كبرياء. ففي الكنيسة، ليس الطموح شأنًا محصورًا بفرد، بل من طبيعة الكنيسة الواحدة التي الكلّ فيها مدعوّ إلى التحليق فالشدو.
[1] القدّيس إسحق السريانيّ، نسكيّات، نقله إلى العربيّة الأب إسحق عطالله الآثوسيّ، دير مار مخايل، 1998، صفحة 137.
[2] مجمع ترولّو، العام 692، القانون 12.
[3] القدّيس إفرام السريانيّ، مقالات روحيّة وخشوعيّة، تعريب الأب إفرام كرياكوس، منشورات التراث الآبائيّ، 2004، صفحة 399.