ليس جميع الناس قادرين على أن يسافروا من مكان إلى آخر. ولكنّهم كلّهم يمكنهم أن يفعلوا في مواقعهم. وخير سَفر أن يغوص المرء على معاني كتاب الله.
هذا الكتاب، الذي كتب الله مصيرنا فيه، هو درب رحلتي. فأنا موجود في كلّ كلمة من كلماته، وكلّ عبارة من عباراته، وسِفر من أسفاره. إنّه دليل حياتي أمس واليوم وغدًا.
في قراءته، أرى نفسي أصطاد في بحر الجليل. ثمّ على الجبل، أسمع كلمات الحياة. وأراني أتجوّل على طرقات أعرف، اليوم، أنّها مغتصَبة. أتجوّل، ولا أرى ما يمنعني. أرى إبراء أبرص، وشفاء خادم قائد المئة وحماة بطرس، ومرضى كثيرين حمل يسوع أسقامهم. وأرى كاتبًا وتلميذًا يكلّمهما ابن الإنسان على ما تفترضه خدمة الرسالة من فقر وتفرّغ كاملين. ثمّ أراه يأخذني إلى البحر، ويصعدني السفينة. وأصعد هادئ البال. فثقتي تامّة بأنّ من أخذني معه تطيعه الرياح والبحر.
في سَفري، ما من محطّة واحدة. اليوم، ناحية الجدريّين، ومن ثمّ كفرناحوم ومدن وقرًى أخرى عديدة. وفي سَفري، لا يقلقني جوع وعطش. معلّمي يعدّ كلّ شيء. وقد أعدّ لنا، اليوم، طعامًا على مائدة لاويّ دعاه من بيت الجباية. وتزيد من جمال سَفري وجوه متنوّعة تنتظر من يعلن لها بشارة الملكوت، ويشفيها من كلّ علّة: خطأة، تلاميذ المعمدان، وجيه يطلب إحياء ابنته، امرأة منزوفة، أعميان، وجموع كثيرة أشفق الربّ عليها. ليس مألوفًا أن ترى شخصًا واحدًا قادرًا، في يوم واحد، على لقاء الكثيرين من دون أن يخالطه تعب. لكنّ غير المألوف هو الذي يهبك أن تفهم ما يريده ربّ الحصاد. وما يريده عملة يُحاكون ابنه، ويدخلون في مغامرة خدمة شاقّة يتكفّل بنجاحها روحه الحيّ.
ما يفرحك في السَفر، ربّما يقلق غيرك. وها المعمدان، سجين الحقّ، يرسل تلاميذه، ليسألوا يسوع إن كان هو الآتي، أو شخص آخر. لم يخفِ الربّ جوابه. وردّ المرسَلين إلى الأنبياء الذين شهدوا له. ولمّا انصرفوا، أخذ يحدّث الجموع عن ثبات يوحنّا. ثمّ عنّف المدن التي لم تتب. ويدهشك أنّه اعتبر أنّ مدينتي صور وصيدا سيكون مصيرهما، يوم الدين، أخفّ وطأةً من غيرهما. في السَفر، يحلو لك أن تسمع عن بلادك أخبارًا حلوة. ويحلو لك أكثر ما يكشفه الآبُ للأطفال. فتمشي إلى ابنه، وترتاح إليه، لربّما يعنيك بقوله: "تتلمذوا لي". فترمي السبت، أي كلّ عتيق فيك، وترتدي ما يهبك إيّاه ربُّ السبت.
ثمّ ترى نفسك تتبعه إلى أحد المجامع. وهناك، تراه يشفي رجلاً يعيقه شللٌ عن فتح الكتب. هذا الشفاء أغضب الفرّيسيّين الذين همّهم أن يحتكروا المعرفة. فقرّروا إهلاكه. وعندما شفى ممسوسًا، تأجّج غضبهم. فاتّهموه بأنّه يخرج الشياطين برئيسهم. لم يضربهم (لا يضرب)، بل ردّ على غيّهم بأنّه يفعل ما يفعله بروح الله. وأفحمهم بما قاله عن الطيّب والخبيث، ويونان النبيّ، ومصير كلّ جيل فاسد. ثمّ دخل دارًا. وفيما كان يعلّم، أتاه خبر وصول أمّه وبعض أقاربه. لم يخرج إليهم، بل قال، من مكانه، إنّ أقرباءه من يسمعون كلمته. ولترجو أن ينطبق عليك ما على أمّه، تعطيه أذنيك جيّدًا. وتسمعه ينسج أمثالاً من خيوط الحياة: الزارع، الزؤان، حبّة الخردل، الخميرة، الكنز واللؤلؤة، والشبكة. كان يعرف أنّنا نحبّ القصص. فروى لنا منها، ليغدو كلّ من يطيعه قصّةً تُروى. وفي الناصرة، علّم أيضًا، وأدهش من سمعوه.
عادت شهرته لا تقاوم. وسمع هيرودس بذكره. واعتقد أنّ المعمدان، الذي قطع رأسه في سهرة ماجنة، قد عاد حيًّا. ذكرُ ما جرى للمعمدان دفع الربّ إلى أن يعتزل. ولكنّه لم يطل. قطع عزلته رأفةً بكلّ جائع إليه. وأطعمنا جميعًا خبزًا وسمكًا. وليناجي أباه على راحته، أمر تلاميذه أن يُبحروا إلى الشاطئ المقابل. كان الوقت متأخّرًا. فنمت هناك. وفي الصباح، عرفت أنّهم وصلوا إلى أرض جنّاسرت. فتبعتهم. كان هو يشفي. وأمّا تلاميذه، فكانوا يروون كيف أتى إليهم ماشيًا على البحر الهائج، وأنقذهم من موت محتّم. ثمّ دُفع الربُّ إلى أن يعلّم. وكلّمنا على الطاهر والنجس. وشفى ابنةً أخرى من بلادي. وبعد أن مدّ لنا مائدةً جديدةً، حذّر تلاميذه من تعليم الفرّيسيّين والصدّوقيّين. ولمّا وصل إلى بانياس، اختلى بهم. بعد هذه الخلوة، رأيتهم حزانى. وعرفت أنّه أخبرهم، في حوار شارك فيه أبوه، عن آلامه الوشيكة. لم يقبل التلاميذ موت المسيح ابن الله الحيّ. وإذ قالوا له ذلك علنًا، عاجَلهم بأنّهم سيشاركونه في مصيره. ثمّ أخذ بعضهم إلى الجبل، وتجلّى أمامهم، ليتركوا كلّ حزن، ويؤمنوا بانتصاره على شيطان الموت. وبعد أن نزلوا، حدّثهم عن حياة الكنيسة التي تبقي كلّ من يحسن الانتساب إليها في تجلٍّ راهن. وَقَبْلَ أن يدخل أورشليم، أجابهم عن بعض أسئلة تقلقهم: الزواج، مكانة الطفل في الجماعة، خطر الغنى والسلطة.
في أورشليم، أظهر يسوع غيرته النبويّة. ثمّ خرج من المدينة العاصية، وعاد إليها. كان يبحث عن الثمر. وإذ لم يجده، أخذ يخبر بأمثالٍ عمّا سيجري له، كمثل: الابنين، الكرّامين القتلة، ووليمة الملك. وبعدها، فضح رياء الفرّيسيّين والصدّوقيّين والكتبة. وأنبأ، في حديث طويل، بخراب أورشليم. وعلّم الأتقياء أن ينجوا من الخطر العتيد بأمثال أخرى، كمثل: الوكيل الأمين، العذارى، والوزنات. وختم تعليمه بوصيّة أشعرنا بأنّها حبيبة إلى قلبه: أن نحبّ المساكين كما لو أنّهم هو.
يبدو أنّ سَفري شارف على النهاية. فأعداء الحقّ، الذين عادوا لا يطيقون الحياة، أغروا يهوذا التلميذ العاقّ، ليسلمه إليهم. ولكنّ الربّ استطاع أن يقيم عشاءه الأخير الذي قدّم فيه حياته ومحبّته. وبعد العشاء، قبضوا عليه في بستان الزيتون. وقادوه إلى المجلس. وأنكره بطرس. وأمام بيلاطس، وُقِّع حكمُ موته. فصلبوه، وعيّروه، ومات. ولكنّه قام كما وعد مرارًا. وإذ عرفت أنّه دعا تلاميذه إلى الجليل، ركضت إلى هناك. كانت وصيّته الأخيرة لهم أن يعمّدوا الكون، ويعلّموا الكلّ أن يسافروا في كلمته.