تحلّق بعض شباب نهضويّين حول شيخ وقور كان يكلّمهم على "الأبوّة الروحيّة". وبعد انتهاء الحديث، قام أحد الحاضرين، وقال بلهجة جازمة: "لا تجوز ممارسة الاعتراف أمام كاهن متزوّج"!
طبعًا، لم يمرّ هذا القول من دون ردود يستحقّها. ولربّما خير ردّ كان الغرابة التي بدت على وجوه معظم سامعيه. والغرابة هي أحد الأسباب التي دفعت إلى كتابة هذه السطور. وحسبي أنّني لن أزيد عليها شيئًا.
من المعروف أنّ ثمّة أقوالاً، أخذ بعضٌ يردّدها، لا علاقة لها بالتراث النهضويّ. كيف تنبت الأقوال الغريبة؟ الله يعلم! لا أريد أن أتعب القارئ بذكر بعض ما يُردّد هنا وثمّة. يكفي أن أؤكّد أنّ تراثنا، الذي هو مرجعنا في كلّ قول وتصرّف، براء من أيّ قول غريب. ولا يعوزنا الجزم أنّ ما قالته الحركة، في مسراها الذي تزيد سنواته على الستّين، لم يضف إلى التربية الأرثوذكسيّة قيد أنملة. الحركة فرادتها أنّها التزمت الكنيسة، التي تجدّد الكلّ وتحيي الكلّ، ونادت بحقّها في واقع متعب. هذا أقوله وعلمي الثابت أنّنا جميعًا متّفقون على أنّ ما من أحد له فرادة إن خرج على المسلّمات الكنسيّة.
يمكن أن يتحسّس أحدنا أسبابًا عديدة تدفع إلى هذا القول المبيّن أعلاه. فثمّة مؤمنون عديدون أخذوا يناصرون، اليوم، حصر الاعتراف بالخطايا أمام كهنة عازبين (الرهبان مثلاً). وليس عندي أدنى تحفّظ على أن يختار المؤمنُ الكاهنَ الذي يريده أبًا روحيًّا، راهبًا كان أو خادم رعيّة. هذا يسمح به التراث القويم. وهناك، في الأدب الرهبانيّ، مئات الأمثلة التي تُظهر أنّ عوامّ كثيرين كانوا يقيمون عند أقدام شيوخ قدّيسين، لينقذوا قلوبهم من ظلم البرد وظلامه. فحياتنا، إن وضعنا خارجًا كلّ شعور غريب، يجب أن يكون هدفها الحقيقيّ أن نتوب إلى الله دائمًا. فما من أمر يفرح السماء كما يفرحها خاطئ واحد يتوب (لوقا 15: 7). ويعيب علينا جدًّا إن لم نشارك السماء في فرحها.
هذا يقودنا إلى اعتراف واجب، وهو أنّ ثمّة خبرة عميقة في الأديرة، ظهرت في الماضي، واستعيد عمقها في الحاضر. وإلى جانب حبّنا أن يبقى عمق الماضي قائمًا في الحاضر دائمًا، نرجو، بصدق، أن تكون هذه الخبرة هي قصد الذين يقصدون "البراري" جميعًا. بلى، إنّ ثمّة أسبابًا قديمة أخرى دفعت مؤمنين إلى أن يقصدوا الأديرة، ومنها أنّ بعضهم كان يشعر بأنّ المؤتمنين على أسرار الله، في المدن، لا يحيون جميعهم بموجب مقتضى حياة البرّيّة التي هي مقتضى إنجيل الله. وقَبِلَهم الرهبان برحابة صدر. وعندي، أنّهم، بهذا القبول، قد بيّنوا انسجامهم ورؤية الكنيسة الثابتة: إنّهم، في آنٍ واحد، ضدّ الخطيئة فيهم وفي الناس جميعًا.
لا أريد أن أقابل بين وضع الرعايا قديمًا ووضعها في الحاضر. فعلى قلّة ما وصل إلينا، ليس هذا بمنطق صحيح. وخوفي أن يعتبر أحد أنّني، في المقابلة، أحسب أنّ وضع رعايانا يسمح بإهمال الأديرة اليوم. وما من حال، مهما سما، يوافق على هذا الإهمال. فالدير مرتع خلوة. إنّه صورة قلوبنا. ولا يكمل قلب إن لم يعترفْ بحقّ هذه القفزة الراضية إلى ملكوت الله التي قامت عليها الرهبنة، ويجتنِ من عمقها ما يفيده، ويغنيه. لكن، ثمّة أمر يجب قوله سريعًا هنا، وهو أنّ مستوطني الأديرة لم يولدوا فيها. نشأوا، وترعرعوا، في مكان ما، خارجها. وقصدوها، ليكملوا مسيرة حياتهم التي آمنوا بأنّ القداسة هي هدفها الوحيد. وهذا سبب وجيه للقول إنّ ثمّة في الرعايا، التي خرجوا منها، علامة ما من علامات الروح القدس. لا، ليس من المسيحيّة القويمة القول إنّ الحياة في المسيح موقعها واحد إن لم يكن قصدنا بالموقع هو مسيح الله نفسه. فإن كنّا نريد أن يعمق حبّ الله في أيّ دير من أديرتنا، وهذه إرادة واجبة، فلن تكون إرادتنا سليمة إن لم نرد هذا العمق لكلّ المؤمنين في كلّ مكان. الرهبنة، منذ نشأتها، أراد أربابها الخلاص لجميع الناس. وهذا ثابت في مسرى التاريخ، وثابت في عمق المسيح الذي، بعد أن شفى رجل كورة الجرجسيّين، أمرَهُ، على الرغم من رغبته في أن يصحبه، بقوله له: "ارجع إلى بيتك، وحدّث بكلّ ما صنع الله إليك" (لوقا 8: 38 و39). إن لم نؤمن بأنّنا كلّنا نتبع المسيح في مواقعنا المختلفة، فنحن نؤمن بأنفسنا فحسب. وهذا، إن حدث، تطاول لا علاقة له بالله مخلّص العالم.
من علامات الحبّ الذي يفوق الوصف في أديرتنا اليوم، الجهد الذي يبذله شيوخها في استقبالهم مَنْ يفتّشون عن "كلمة حياة". وهؤلاء كثر. فقد سمعنا، باغتباط شديد، أنّ الآباء يقضون ساعات طويلة في قبول اعتراف التائبين. ونعرف أنّ بعضهم يطوف المدن والقرى، ليجتمع بمن تهمّهم مصالحة قلوبهم فكنيستهم. وهذا وذاك لا يقدر أحدٌ، مستقيمًا، على إهمال حسنه وضرورته. وممنوع علينا أن نعتبر أنّ ما يبذله الآباء الشيوخ من جهد تدخّلٌ في ما لا يعنيهم! فما يعني مسيح الله فقط، من الواجب أن يعنينا جميعًا. كلّنا يدرك أنّ الاعتراف يربّي القلب على الجدّيّة، أو هكذا يجب. وهذا، حاصلاً، مبعث فرح لا يفوقه فرح. وهذا، حاصلاً، ضرورة تعوزها الرعايا جميعًا. كيف يكون المؤمن الراضي خميرة في عجين الكنيسة؟ ذاك هو السؤال الذي يفترضه كلّ التزام. وهذا يطرح سؤالاً واجبًا، وهو: هل أنّ المؤمنين الملتزمين يعون أنفسهم خميرة؟
من دون أن ندين أحدًا، إذا نظرنا إلى واقعنا نظرة تفحّص، لا نحتاج إلى عناء كبير، لندرك أنّ ثمّة أشخاصًا لا يعرفون أنّ الاعتراف لا يُفصَل عن حياة الكنيسة، أي جماعة المؤمنين. بلى، الذين يعترفون قليلون. ولكنّ هذه القلّةَ الكثيرُ منها يبدو أنّه لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف! ويحزننا أنّ بعضًا من القلّة يحاول أن يضرب غيره بما يحسب أنّه يختبره شخصيًّا. هناك، إذا حفظنا في قلوبنا الخير الظاهر بوفرة، مشكلتان في رؤيتنا إلى ما يجري اليوم. أوّلهما أنّ الاعتراف يكاد ينحصر بجلسة أمام أب معرّف. وثانيهما أنّ ثمّة تحزّبًا فاضحًا يتبجّح به من يعترفون أمام هذا الأب أو ذاك. دعونا نتبسّط قليلاً في المشكلتين.
لا، ليس الاعتراف أن أقرّ بخطاياي أمام كاهن ورع فحسب. هذا، على أهمّيّته القصوى، بعضه. الاعتراف يلقى ذاته في حياة الكنيسة كلّها. إنّه سرّ الكنيسة. كلّ حياتنا المسيحيّة سرّ. من التزم الاعتراف، من واجبه أن يقبله في كلّ حال. وهل غير هذا هدف التوبة؟ يجب ألاّ ننسى أنّ هذا السرّ يسمّى، في تراثنا، "سرّ التوبة والاعتراف"، أو باختصار لا يغيّر المعنى: "سرّ التوبة". والتوبة، سرًّا، هي أن تفتح قلبك لاستقبال كلمة الحياة من أيّ شخص أتتك. فالروح، الذي يجدّدك تائبًا، "يهبّ حيث يشاء" (يوحنّا 3: 8). ثمّة، في التراث النسكيّ، قصّة معبّرة جدًّا تنفعنا في هذا السياق. وقد جرت كالتالي: "يروى أنّ ناسكًا لم يكن قد قرّر، نهائيًّا، أن يلتزم حياة الدير. لم يكن يعرف إن كان الله يريده راهبًا أو سائحًا (وهذا كان معروفًا في القديم). كان، في أحد الأيّام، يمشي في البرّيّة. فوجد امرأة عارية تسبح في بحيرة. فانتهرها قائلاً: اخرجي، وارتدي ثيابك، فأنا راهب. فأجابته: لو كنت راهبًا، لكنت في الدير. فسمع هذا القول على أنّه من فم الله"! التوبة هي أن تفتح قلبك لله الذي يعرف قلبك. هي أن تسمع صوته في مَنْ تحسبه كبيرًا أو صغيرًا. لا يقبل حسن قبول التوبة أن نظنّ أنّ الله يكلّمنا في من نراهم كبارًا فحسب! وهذا يجب أن يلقى ذاته في كلّ الأطر الكنسيّة. فأنت تتوب أمام كلمات الإنجيل، وتتوب إذا وعظ الكاهن، وتتوب في كلّ لقاء يسوده الله بحضوره، أي، باختصار، تتوب دائمًا. حصر التوبة بموقع من دون آخر يخالف التراث القويم. حصر التوبة هو وَهْم توبة!
ثمّ إذا رأينا إلى التحزّب، فالمشكلة، وإن كانت تتقاطع مع سابقتها، تأخذ بُعْدًا آخر. لقد ترك لنا التراث الكتابيّ أقوالاً عدّة عن شرّ التحزّب. ولربّما خيرها ما قاله رسول الأمم: "أناشدكم، أيّها الإخوة، باسم ربّنا يسوع المسيح، أن تقولوا قولاً واحدًا وألاّ يكون بينكم اختلافات، بل كونوا على وئام تامّ في روح واحد وفكر واحد. فقد أخبرني عنكم، أيّها الإخوة، أهل خُلُوة أنّ بينكم مخاصمات، أعني أنّ كلّ واحد منكم يقول: أنا لبولس، وأنا لأبّلّس، وأنا لصخر، وأنا للمسيح. أترى المسيح انقسم؟ أبولس صلب من أجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟ (ويمكن أن نفهم ما يناسب سياقنا: هل كهنوت المسيح انقسم؟)" (1كورنوثس 1: 10- 13، أنظر أيضًا 3: 1- 9). ما هو عمق مشكلة التحزّب؟ عمق مشكلته أنّه يجعل الكنيسة أقوامًا متناحرة! والتوبة هدفها الوحيد أن ترى ذاتك مع الكلّ. أبوك، في الاعتراف، يعيدك إلى الكنيسة، أي يعيدك بعد أن تكون فصلت نفسك عنها بإرادتك الخاطئة. ماذا يفعل التحزّب؟ يريك نفسك مع بعضٍ، مع بعضٍ تحسبه الكلّ! هذا هو الخطر الحقيقيّ الذي واجهه الرسول في قوله. واجهه لكونه تعنيه وحدة الكنيسة، أي وحدة المؤمنين الذين اعتمدوا جميعهم لله. والتوبة، أكرّر، هذا هدفها الوحيد. إنّها تعيدك، معمّدًا، إلى حضن الجماعة التي أنجبتك. يجب ألاّ ننسى أنّ من نتائج الخطيئة هي الشرذمة. هذا تبيّنه رواية السقوط في سفر التكوين. فآدم، بعد أن أخطأ، فصل نفسه عن حواء. وحوّاء كذلك. لم يحسن أيٌّ منهما أن يعترف بذنبه. رماه على غيره. وأنت، إن لم تعِ أنّك واحد مع الجماعة، تتوهّم أنّ توبتك قد كملت. أنت تتوّهم إن حسبت نفسك أهمّ من غيرك، إن تعاليت، إن برّرت تقواك، إن انفصلت، إن لم تفتح قلبك دائمًا، إن لم تبكك الخطايا فيك وفي الآخرين، وإن لم تجنّد ذاتك لاستئصال كلّ شوكة تدمي جنب غيرك. فأنت، متحزّبًا، تنادي، في الأخير، بنفسك. لقد اعترفت بذنبك، ولم تخرج إلى الكلّ. خرجت من أمام خادم الكلّ، وكان عليك أن تبقى أمامه! خرجت، لتضرب الآخرين بما حسبته فيك. وما فيك، بعيدًا من شركة الإخوة، فراغ قاتل. كلّ انفصال عن الكلّ هو، في واقعه، فراغ.
قد تكفي الغرابة ردًّا على القول الظاهر في رأس هذه السطور. ولكنّنا آثرنا توضيح ما هو موجود في تراثنا، لنعرف أنّ الكنيسة، كما هي، لا تقبل كلامًا غريبًا. الله، الذي أحبّنا منذ البدء، قائم في الكلّ. فإن أنت أحببت قيامه في شخص محدّد، فنعم الحبّ. ولكن يجب أن تعرف أنّه "تعوزك واحدة بعد": أن تشكر لله نعمه القائمة في الكلّ، وتعتمد حبّه في قبول الكلّ وخدمة الكلّ. إن فعلت، أي إن فعلت فقط، "تخلّص نفسك والذين يستمعون إليك".