28مايو

زواج في الربّ

                يحلو لي أن أكلّمك على الزواج بعد أن كلّمتُكَ على القداسة التي هي هدف حياتنا في المسيح.

                لم أقل لك يومًا، ولن تسمعني أقول، إنّ للربّ طريقًا أعلى من طريق آخر. ففي الحياة الكنسيّة، مهما تنوّعت الطرق، طريق واحد، أي هدف واحد، وهو أن نطيع الله الذي دعانا إلى أن "نشترك في قداسته". هذا، إن لم نضعه نصب أعيننا، فكلّ ما نختاره لن يصيب هدفه. لا، لستُ أرى، إن كان الله سيأذن لك بأن تتزوّج، وأنا أعرف أنّ هذا ما ترغب أنت نفسُكَ فيه، أنّ ثمّة أمرًا يمنعك من أن تنظر إلى بيوتٍ ترضيه. غير أنّ ما أشتهيه لك أن تنظر، دائمًا، إلى الله البريء من العيب وحده. وإن رأيتَ في الأرض إطلالاتٍ منه، فلا بأس أن تأخذ بها. أو خذها، وارفع المجد إلى ربّ المجد.

                يا بنيّ، لمجتمعنا ما يشغله. وهذا بعضه جيّد جدًّا. وكثير منه لا مثيل لسوئه. وهل ثمّة، في زماننا الحاضر، ما هو أسوأ من هذه البعثرة التي يسمّيها الكثيرون "حرّيّة"؟

                لا أريدك، بما أقوله الآن، أن تفهم أنّني أميّز بين جنس وآخر. بلى، الفتاة ما زال بعضنا يسجنها في قمقم التقاليد البالية. لا، لستُ أحسب أنّ عفّة الفتاة، وهي قصدي أوّلاً، تقليدٌ بالٍ. فهذه دعوة خصّنا الله بها جميعًا، أيًّا يكن عمرنا أو جنسنا، وينتظر أن نقبلها جميعُنا أحرارًا. لكنّ ما يزعج، كثيرًا، أن ترى بعضًا يغضّون الطرف عمّا يفعله الذُكْران منهم. فَلِعيبِ الذَكَر، في العقول المريضة، ما يبرّره. أمّا الفتاة، فعمومًا لا. وهذا يسيء إلى جوهر المسيحيّة التي لا تميّز، في التزام الفضيلة، بين جنس وجنس.

                هل لي أن أنتظر منك أن تشاركني في هذا الانتقاد؟

                في صفحات أريدها محتشمةً، يصعب عليَّ أن أصوّر لك سخريّتي بحروف تخالف إرادتي. فافهم أنّني أسخر. أسخر من تمييز يحكمنا بسهولة جارحة. أسخر كثيرًا. أسخر، فيما المعروف أنّ ثمّة كثيرين، في غير مكان، أخذوا ينادون بمساواة الرجل والمرأة. لا، لا أسخر من هذه المناداة. فأنا يغريني أن يردّد الناس، عن علم منهم أو غير علم، ما نادى به رسول الأمم الذي قال، في مطلع المسيحيّة: "ليس هناك ذَكَرٌ وأنثى، لأنّكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع".

                هل أذكر مناداة الرسول فيما نيّتي أن أعلّي ذكر غباوة كلّ مَنْ تساوره نفسه أن يبدأ بنفسه؟

                لا، بل أذكرها في سياق التزامي كشف الحقّ لك.

                ربّما تسأل: لِمَ يعود أبي، في غير موضوع يطرحه عليَّ، إلى المجتمع، إلى ما يُسمع في المجتمع، إلى ما يُرى فيه؟ وأنا، إن كنتَ تريد رأيي هنا، فإنّ بغية قلبي أن تسأل. فهذا يجعلني أشعر بأنّ ما تقرأه يحرّكك. إذًا، أعود. وتراني أعود. لكنّ ما أريدك أن تراه، بوضوح، أنّه لا يعنيني، في كلّ عودة، أن أنتقد العيب حيث هو فحسب، بل أن أرجو أن يعود كلّ مَنْ في مجتمعنا، كلّهم جميعًا، إلى الله الذي تنحدر منه كلّ عطيّة صالحة، ولا سيّما أن أدفعك أنت إلى أن تهرب من كلّ فكر غريب يوهم مَنْ يردّده بأنّه حقّ. فالحقّ، وأعني الطهر هنا، قائم في "فكر المسيح"، وفي إشعاعاتٍ منه تجدها قديمًا وحديثًا. فاسأل، إن كنتَ لم تفعل بعدُ. فإنّني سأعود حيث أرى مناسبًا.

                ربّما تنتظر أن أكتب لك عن رأيي في مَنْ تنوي أن ترتبط بها، عن إيمانها، أصولها، صفاتها، وثقافتها، وغيرها. وهذه أمور تكلّمنا عليها، مرّاتٍ عدّةً، وجهًا بوجه. ولا يفوتك أنّ أعلى ما يعنيني أن "تتزوّج في الربّ". فإنّما الزواج هو "في الربّ". وهذه، التي هي مسلَّمة رسوليّة، لا تعني أن تتزوّج في الكنيسة فحسب، فهذا أمر أعرف أنّك لا تحتاج إلى مَنْ يقنعك به، بل، أيضًا، أن تكون لِمَنْ ستشاركك في حياتك إقامة طيّبة "في" ربّنا يسوع. ويعنيني، إلى هذا (والأفضل أن تفهم: من هذا. إذ لا يضاف إلى الإقامة في الربّ أيّ شيء)، أن تبقى أنت نقيًّا، في كلّ يوم، في كلّ لحظة، كما لو أنّك عُمِّدتَ اليوم.

                إن كان لي أن أطلب أمرًا يناسب ما أكلّمك عليه، فأطلب منك ما سمعتَهُ منّي مرارًا. أطلب ألاّ تبحث عن فتاة كاملة، لترتبط بها. فالكمال إنّما هو مسعى يخصّنا جميعًا. وبكلام أوضح، يخصّك أنت أوّلاً، أي أنت أوّلاً مدعوّ إلى أن تشترط على نفسك أن تسعى إلى الكمال. وهذا من مقتضياته أن تحفظ نفسك لِمَنْ تريد أن ترتبط بها. لا تطلب من أيٍّ كان، أجل أيٍّ كان، ما لا تطلبه أنت من نفسك. فالزواج لقاء بين متساويَيْن. ولقاءٌ، لفظةً، يجب أن تفهم أنّها تعني لقاءً يجمعكما "في الربّ". فإن أعطى معظمُ أهلِ مجتمعِنا الذكورَ ما أخذوا يسمّونه "حرّيّةً"، فتقيّد أنت بما أعطانا إيّاه الله فحسب. وإن أعطى مجتمعنا، أو معظمه، الجنس، وأعني قَبْلَ الزواج أو خارج الزواج، عذرًا من الأعذار الواهية، فاعتقد أنت أنّه من صميم عهد الزواج. عندما سألتَني إن كان الحبّ بين شخصَيْن (غير متزوّجَيْن) يشرّع العلاقة الجنسيّة، هل تتذكّر ماذا أجبتُكَ؟ أجبتُكَ أنّك لا تستطيع أن تقفز إلى الأمام، وتعامل الحاضر بما عليك أن تنتظر تمامه. فالحبّ، على أهمّيّته، لا يحلّ، عندنا نحن المسيحيّين، محلّ الله، أي محلّ العهد الذي يجب أن نقيمه أمامه، أو نقيمه فيه.

                هل لم تعرف أشخاصًا انفصلوا بعد حبّ جامح؟

                بلى، تعرف. وما تعرفه، لا يوافقه أن يُردّ عليه أنّ ثمّة متزوّجين ينفصلون، لتوازي بين الحبّ والزواج الكنسيّ. فهذا يمكن أن يُردّ عليه بأنّنا لا نبني على الخطأ. إذ لا يشرّع لنا الخطأ أن نبني عليه.

                لمّا قلتُ لك إنّ الزواج هو "في الربّ"، قلتُ لك كلّ ما أريد قوله هنا، ولا سيّما عن حسن اختيار الشريك المرتقب. فنحن لا نطمئنّ إلى لحم ودم، أي إلى ما يثيرنا في الآخر، إلى ما نستحسنه في مَنْ لنا معه علاقة ودّ. ولكنّنا نطمئنّ إلى مَنْ يحيا "في" الربّ فحسب. لا أريد أن أبدو ديّانًا. غير أنّ الحقّ يفرض علينا أن نسأل: أين يضع المتزوّجون الله فيما يتزوّجون، أو فيما بعضهم ينفصلون؟ هناك، في الدنيا، تبريرات كثيرة عن أسباب انفصال المتزوّجين. ولكن، هل سمعتَ، يومًا، أحدهم يقول إنّني لم أحفظ زواجي، لأنّي لم أحافظ على علاقتي بالله؟ هل سمعتَ؟ أنا أكاد أقول إنّني لم أسمع.

                هل لي أن أقول لك شيئًا خبرتُهُ من دون أن تفهم أنّني أزكّي نفسي؟

                سأخبرك.

                كلّ مصالحة أقمتُها، بين زوجَيْن متخاصمَيْن، كانت قاعدة كلامي أن يذكر كلٌّ منهما خطاياه الشخصيّة. وكنتُ أريد أن يذكرا الله الذي هو مرآة نفوسنا. فمشكلة غير متخاصم مع زوجه أنّه يجهل أنّ الزواج هو زواج "في الربّ". ولا أرى عيبًا إن أعدتُ عليك أنّ الزواج "في الربّ" هو في اعتناق فضائل الله أوّلاً وأخيرًا. إن سألتَ متزوّجين، وأقصد ليست لهم خبرة حياة مع المسيح، لن تسمع واحدًا يعتقد أنّ زواجه مشروع قداسة. هذا الآخر، الذي ارتبط به، لا يراه الآخر الذي عاهد الله، في معموديّـته قَبْلَ زواجه، أن يحبّ الله فيه. مشكلة معظم المتزوّجين أنّهم لا يرون دورًا لهم في دفع شركاء حياتهم إلى اختيار الفضيلة نهجَ حياة. معظمهم، على الإطلاق، أنانيّون متعجرفون. لا يهمّهم سوى أن يؤكّدوا أنفسهم. والآخر هو مَنْ يتساقط عليه ما أرغب أنا له فيه. تستباح حرّيّة الشخص، كرامته، فرادته، موهبته، في عصر الأنانيّة المريضة. وهذا أقوله لك بحكم أبوّتي. وربّما تكون قد سمعتَ بعضه منّي قَبْلاً. وإنّما أقوله لك، لتتجنّب كلّ شرّ يهدم الحياة هدمًا. لن أردّد عليك ما تكون قد سمعتَهُ متى انفصل زوجان أنجبا: مساكين هم الأولاد. الأولاد، الذين ينفصل ذووهم، مساكين طبعًا، ولا سيّما إن كانوا صغارًا. ولكنّ المساكين، أوّلاً، هم أشخاص لا يستحقّون أن يتزوّجوا، أو، اعذرني على قسوتي، أن يُمنحوا نعمة الإنجاب!

                هل أُكرهك على أن ترى ما أراه، أو أُكرهك من زواج مفترض؟

                لعمري، لا. فأنا أذكّرك بأن تبقى أمينًا لتربية كنيستك، لتفهم، في أيّ قرار تتّخذه، أنّ ما يرضي الله هو أن تجدّد نفسك صباح مساء. أن تجدّدها بِمَنْ أحبّك، ويحبّك دائمًا. ففي هذا الذكر، إن تزوّجتَ، يكون زواجك عرسًا يوميًّا.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content