كلّ قائد، أسقفًا أو كاهنًا، أساس لحياة الجماعة الكنسيّة ونموّها وازدهارها. وفيما يجب أن تقبله قائدًا، تبقى دعوتها أن تعينه على ثباته في الحقّ كلّ حين، ولا سيّما إن رأته يحتاج إلى معونة. فالكنيسة، جماعةً، كلُّ مَنْ فيها سندٌ لسواه، أيًّا كان موقعه. ألم يصفها الرسول بأنّها "بناء الله" (1كورنثوس 3: 9)؟
تعلّمْنا، في هذه الكنيسة البهيّة، أنّ للمؤمنين، ولا سيّما الروحيّين منهم، دورًا في اختيار قادتهم. وإن كان هذا، عمومًا، علمًا تندر ترجمته في واقعنا المنظور، إلاّ أنّه، على أهمّيّة مصالحة حقّه أبدًا، يفترض، دائمًا، وعيًا أنّ دور جماعة المؤمنين لا ينقضي بوصول مَنْ يصل إلى موقع قياديّ، بل يجب أن يُستكمل في كلّ ما يعملونه من خير يدعم، ويحمي، ويصحّح، ويثبّت. ليس قادة الجماعة الكنسيّة مزارعين شأنهم أن يعتنوا بحقل الله فحسب، بل هم، أيضًا، زهور يحتاج كلٌّ منهم إلى رعاية.
بلى، هذا يلزم كلّ قائد أن يقبل، بتواضعٍ ظاهرٍ، إخوته جميعًا، أي ألاّ يرى نفسه كاملاً من دون أيٍّ منهم، ويتّكئ لا سيّما على المخلصين الذين تزوّدوا من ربّهم محبّةً وإخلاصًا عاليَيْن، ليصرفوا أنفسهم كُرمى لتبقى الكنيسة عروسًا تُشتهى. فمعظمنا نعرف أنّ تراثنا شبّه الأسقف بأنّه "عريس الكنيسة". وهذا التشبيه لا ينحصر معناه بالتزامه خدمتها، "صحيحًا مكرّمًا معافَى"، حتّى آخر حياته فحسب، بل أن يحبّها وتحبّه في غير حال. "أنا لحبيبي، وحبيبي لي"، في غير أمر يُمتّن المحبّة التي ليست مثلها فضيلة تدلّ على أنّنا لله حقًّا (تلاميذه، كما قال ربّنا). بهذا المعنى، يجب أن نقرأ قول الربّ، في سفر رؤيا يوحنّا، لكلّ قائد في الجماعة: "مَنْ له أذنان، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس". فالروح لا يُحتجز نطقُهُ، بل يتكلّم في أيّ شخص، وفي كلّ مكان، أي "يهبّ حيث يشاء" (يوحنّا 3: 8). والربّ ينتظر أن تبقى قلوب قادة الجماعة الكنسيّة طريّةً، ليُحسنوا الإصغاء إلى صوت الروح حيثما يظهر. هل ما قاله ربّنا، في ما اقتبسناه من سفر رؤيا يوحنّا، يذكّر بالمعموديّة؟ لا يمكن أن يكون الأمر سوى ذلك. فالمعمَّدون قد نالوا عطايا الروح بما يناسب أن يضيء نوره في البيت (أي في الكنيسة) وخارجه عملاً صالحًا. وعلى القائد، خادم الأسرار، فيما يقيم الأسرار، وفي سياقنا سرّ المعموديّة، وفيما يرعى مَنْ أقامتهم نعمُها أعضاء في شعب الله، أن يؤمن، إيمانًا ظاهرًا، بأنّ خدمته تعني، ممّا تعني، استماعًا جديدًا إلى ما يقوله روح الله "من أجل الخير العامّ". فالأسرار الكنسيّة لا تفيد مَنْ يقبلونها بوعي نبيه فحسب، بل الجماعة كلّها أيضًا، قادةً وعوامّ.
هذا يتطلّب وعيًا راهنًا أنّ روح الله يريدنا جميعًا أن نخدم كنيسته، في كلّ ما يكشفه من وحي ينشئ حياة البرّ ويدعم ثباتها، وتاليًا كلّ ما يسهم في رجاء استرجاع جدّة أيِّ مَنْ فيها بعد أيِّ سقوط، إن طارئًا أو مستحكمًا. وهذا لا يحقّقه أن نكتفي بمشاهدة ما يجري في الكنيسة، أو أن نقبل حياتنا بربرة. القادة شأنهم أن يكشفوا الحقّ، ويقبلوه دائمًا. والمؤمنون كذلك. الحياة الكنسيّة استقامتها تخصّ الكلّ. ألم يقل الرسول: "فَمَنْ يكون ضعيفًا، ولا أكون ضعيفًا؟ وَمَنْ تزلّ قدمه، ولا أحترق أنا؟" (2كورنثوس 11: 29)؟ ليس أعلى من هذا القول دلالةً على أنّ ثمّة شركةً في الحياة الكنسيّة في كلّ شيء، في الضعف والزلل كما في القوّة "وميراث القدّيسين في النور". كلّ مَنْ هداه الله وعيًا يجب أن يظهر أنّه، في غير أمر، مسؤول عن عمل الخير. لا يرضي الله أن نكمّ أفواهنا التي ختمها روحه، ولا أن يكمّها أحد. ما دام عندنا شيء يبني، يجب أن نكشفه. ليس من بشريّ، في الأرض، يعرف الخير، أو الخطأ، بالمصادفة. هذا يحرّكه التزام الحقّ. والويل لِمَنْ يحرّكه الله، ولا يتحرّك! والويل لِمَنْ يأبى المتحرّك كلّما تحرّك، أو يمنعه من أن يتحرّك!
في زمن يكاد الكلّ يكتفي بنفسه، يمكنني أن أعرف مصير أيّ تذكير أخويّ. لكنّني أرجو أن ننتبه إلى الحقّ، أينما كنّا. لا نستطيع أن نحيا، في الجماعة، فيما نعلّي أنفسنا على كلمة الله. فالله حكم أن: "إذا تألّم عضو، تألّمت معه سائر الأعضاء. وإذا أُكرم عضو، سرّت معه سائر الأعضاء" (1كورنثوس 12: 26). ونحن لا نقدر على أن نغمض عيوننا عن حكم الله. كلّنا أعضاء في جسد المسيح. "أنتم جسد المسيح، وكلّ واحد منكم عضو فيه" (1كورنثوس 12: 27). كلّنا أعضاء، أي كلّنا مسؤول. هذا لا يخالف أنّ الكنيسة مواهب. الكنيسة مواهب، بأيّ معنى؟ بمعنى أنّ الكلّ مسؤول. وتبقى أعلى موهبة، أنعم علينا روح الله بها، أن نُحيي أنّ الكلّ مسؤول. في العالم، هناك مَنْ يعمل على أن ينام الأكثرون، ليحتكر اليقظة واحدًا لا شريك له! أمّا الكنيسة، فشأن الواعين فيها أن يخدموا انتشار الوعي، ليبقى الله سيّد شعبه وحده.
لقد قرأتُ قديمًا، في كتابٍ عدت لا أذكر عنوانه، تعليقًا على قول الربّ: "أعرف رعيّتي" (يوحنّا 10: 14)، ما يعني: "أنّ الراعي يعرف رعيّته من عيوبها"! وهذا، حسبي، لا يليق بنا حصره! كلّنا لنا من تراب الأرض ما علق به، أي كلّنا معروف!، ويمكن أن نرعى بعضنا بعضًا. يمكن، أو يجب! ليس من المسيحيّة أن نرى العيب كما لو أنّنا لا نراه. يجب أن نرى، لنرعى، أي لنعضد مَنْ يحتاج إلى عضد. كلّما قلنا "اعضد، وخلّص، وارحم، واحفظنا، يا الله، بنعمتك"، ينبغي لنا أن نصغي إلى الله يقول لنا: "اعضدوا، أنتم أيضًا، بعضكم بعضًا، وارحموا، وساعدوا كلّ إنسان، أجل كلّ إنسان، على أن يحافظ على نعمي فيه، وينمو". هذا، أي هذا فحسب، التزامه يكشف أنّنا "رعيّة مع القدّيسين وأهل بيت الله" (أفسس 2: 19).