الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

رسالة يهوذا الرسول الجامعة

اتبع الرابط لتنزيل النسخة المطبوعة

تبدو هذه الرسالة القصيرة غريبةً عن تفكير القارئ المعاصر، وعسرةَ الفهم في غير موضع وفي أكثر من تلميح. لا نعلم، تحديدًا، متى كُتبت (لعلّه ما بين السنوات 80 و100)، وَمَنْ هم الذين استلموها (لعلّهم مسيحيّون جاءوا من العالم اليهوديّ)، وأين كانوا يقطنون (لعلّنا أمام مجموعة كنائس تتوزّع في مناطق واسعة).

هي رسالة أقرب إلى العظة. وُضِعت، كما يقول العارفون، بلغة يونانيّة أنيقة. واستندت إلى أمثلة أُخِذَت من أسفار مقدّسة، وبآنٍ من كتب منحولة (مثل: كتاب أخنوخ، كتاب صعود موسى...)، على مثال ما تعوّده العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ في القرن الأوّل ب.م. . التقت بهذه الرسالة رسالة بطرس الثانية (بخاصّة في 2: 1- 18 و3: 1- 3)، فاستفادت منها، وتوسّعت في مواضيعها. اعترض دخولَ رسالة يهوذا قانونَ الكتاب المقدّس بعضُ العقبات، ولا سيّما في كنائس سورية. فقد ذكر أفسابيوس القيصريّ (القرن الرابع) أنّ بعض المعلّقين القدماء، بسبب الاقتباسات من الكتب غير القانونيّة، قد شكّوا في صحّتها. غير أنّ هذا الشكّ لم يكن عامًّا ومطلقًا. وذلك بأنّ قانون موراتوري (القرن الثاني) أشار إلى أنّ كنيسة رومية كانت تقرأ الرسالة، وأنّ بعض الآباء كرّموها واستعملوها، مثل: ترتليانوس الإفريقيّ (اعتبرها سفرًا مقدّسًا)، وكليمنضس الإسكندريّ وأوريجانس. ولا يخفى أنّ كلّ الاعتراضات والتحفّظات، التي دارت حول هذه الرسالة وقانونيّتها، قد زالت في القرن الخامس.

يقدّم كاتب الرسالة نفسه، بقوله: "من يهوذا عبد يسوع المسيح وأخي يعقوب" (الآية الـ1). فيعترف بأنّه "عبد يسوع". وهذا، لا شكّ، موقف أخذه أقرباء يسوع بعد القيامة. وهذه العبوديّة، التي هي مجد المسيحيّين، تفترض ولاءً كلّيًّا للربّ يسوع. وهي، باختصار، توازي الحرّيّة الحقيقيّة (المسيحيّ حرّ بقدر ما يستعبد نفسه للمسيح). ويعترف، تاليًا، بأنّه "أخو يعقوب". وهو، على الرجح، يعقوب أخو الربّ القائد البارز في الكنيسة الأولى (1كورنثوس 15: 7؛ غلاطية 1: 19، 2: 9؛ يعقوب 1: 1). وهذا يفترض أنّ يعقوب ما زال على قيد الحياة، أو أنّ الجماعة التي يكتب إليها الرسول رسالته تعرفه جيّدًا، وأنّ يهوذا هو، عمومًا، أخو الربّ، والمقصود أحد أقربائه (مرقس 6: 3) .

يوجّه يهوذا مؤلَّفَه إلى "الذين دعاهم الله الآب وأحبّهم وحفظهم ليسوع المسيح". فيبيّن أنّ مصدرَ الدعوة المسيحيّة هو اختيارُ الله المجّانيّ. فالله يدعو الناس، لأنّه يحبّهم. المحبّة هي أداة الدعوة وهدفها. والحياة المسيحيّة هي حياة أناس حفظهم الله "ليسوع المسيح"، وهذا يعني، عمومًا، أنّه وضعهم تحت حماية مَنْ سيدين جميع الناس في اليوم الأخير. ثمّ يضمّن افتتاحيّة رسالته ثلاثة عناصر (عبارات) ليتورجيّة (يستعمل يهوذا مثلّثاتٍ عدّةً في رسالته). يقول: "عليكم أوفر الرحمة والسلام والمحبّة" (الآية الـ2؛ أنظر: 2بطرس 1: 2)، فيرسم صورةً موجزةً عن الحياة المسيحيّة كلّها التي تتأسّس على "الرحمة": أي على علاقة لا تنقطع من جانب الله؛ "والسلام": وهو علامة وحدة البشر مع الله؛ "والمحبّة": وهي العطيّة الكبرى التي تعمّق هذه الوحدة.

ثمّ يبدأ في جسم رسالته، فيدعو قرّاءه "أحبّاء" (لا يتكلّم يهوذا على المحبّة فقط، لكنّه يظهرها أيضًا). ويشير إلى أنّه كان شديد الرغبة – كونه رقيبًا على الكنيسة – في أن يكتب إرشاداتٍ رعائيّةً ("في موضع خلاصنا المشترك"). "موضوع الخلاص" لا يدلّ، هنا، على أعمال الله الخلاصيّة التي تمّت في التاريخ فحسب، بل، أيضًا، على عمله في الزمن الحاضر، وتاليًا على التمتّع الآتي بمجد الله (فهو، بمعنى من المعاني، اختصار للحياة المسيحيّة). غير أنّ أمرًا طارئًا اضطرّه إلى أن يغيّر خطّ الرسالة، ويحضّ قرّاءه "على الجهاد في سبيل الإيمان". يستعمل يهوذا، في هذه الآية، لفظة "جهاد"، ليبيّن أنّ الدفاع عن الإيمان، الذي يعني عنده استقامة التعليم والحياة بآنٍ واحد، هو أمر مكلف ومن دواعي الإخلاص لله (أنظر 2بطرس 1: 5). ويتابع: "الذي سلِّم إلى القدّيسين تامًّا" (الآية الـ3) . يقول: "الذي سلِّم"، وهذا تعبير تقنيّ يدلّ، في العهد الجديد، على التعاليم الموروثة: التعليم الرسوليّ ومجموعة العقائد الحيّة والوعظ... وهذا الإيمان، كما نقرأ في ترجمة أخرى: سلِّم "مرّةً واحدةً". وهذه اللفظة: "مرّةً" ترتبط بخصوصيّة التجسّد الذي فيه تكلّم الله بابنه مرّةً وإلى الأبد. ولقد سلِّم "إلى القدّيسين"، أي إلى الكنيسة. وهذا يدين الفرديّة والتشويه، ويستدعي الأمانة للتراث، أي يتطلّب من الجماعات المسيحيّة أن تتفاعل معالمسلّمات، وأن تحيا حياةً مستقيمةً (رسوليّة). لا يعني الرسول يهوذا، باستعماله عبارة "الإيمان الذي سلِّم إلى القدّيسين تامًّا"، أنّ العقيدة المسيحيّة هي مجموعة تعاليم "جامدة"، بل حيّة. وذلك بأنّ كلّ تجديد لتعابير الإيمان يفترض الأمانة لما نطقه الله مرّةً في ابنه يسوع، وتتناقله الكنيسة الرسوليّة. هذا التغيير، في خطّ الرسالة، من الكتابة عن موضع الخلاص إلى الدفاع عن الإيمان، يبرّره يهوذا بقوله: "إنّه قد تسلّل" (إلى الكنيسة)، أي "دخل خفيةً"، وهي عبارة تدلّ على الإثم، وخطره أقوى عندما يأتي من داخل الجماعة (أنظر: 2بطرس 2: 1؛ غلاطية 2: 4)، "أناس كتب لهم هذا العقاب منذ القديم". الترجمة اللفظيّة لهذه العبارة هي: "سبق أن كتبوا منذ القديم لهذه الدينونة". لا يحدّد يهوذا، هنا، ماهيّة العقاب الذي قد يكون معروفًا وشائعًا في الكنيسة الأولى. ولربّما يقصد أنّ هؤلاء المتسلّلين، الذين قد يكون بعضهم من المرتدّين عن الإيمان، حكم عليهم، من زمن بعيد، بمقتضى اللعنات الواردة في الكتب المقدّسة (الآيات 5- 7 ؛ وأخنوخ 14- 15). ويتابع: هم "كفّار يجعلون نعمة إلهنا فجورًا، وينكرون سيّدنا وربّنا الوحيد يسوع المسيح" (الآية الـ4). وهذا يُظهر، بوضوح، المشكلة التي اضطرّت يهوذا إلى كتابة هذه الرسالة. ذلك بأنّه كان من المهمّ جدًّا، تجاه خصوم مفسَدين ومفسِدين يعتبرون أنفسهم ملهمين (يملكون "نعمة الله")، وهم "كفّار" حرّفوا التعاليم الموروثة، واستغلّوا محبّة الله بتبريرهم فجورهم (أخلاقهم الفاسدة)، كان من المهمّ أن يفنّد (يهوذا) سيّئاتهم، ويذكر، في آنٍ، وحدة عمل الله وخلاص المسيح سيّد الكلّ .

بعد أن كشف يهوذا عن شقاء الذين يتخلّون عن المسلّمات، ينتقل إلى تذكير قرّائه ، ولا سيّما المسؤولين في الجماعة، وهم يعرفون "كلّ ذلك معرفةً تامّةً"، بأن يكونوا أمينين لإيمانهم وعاملين بموجب مقتضياته. فيقدّم ثلاثة أمثلة من العهد القديم، ويريد منها أن يؤوّن الأحداث القديمة، ويعطي قرّاءه علامات، ليفهموا إرادة الله في الزمن الحاضر. أوّل هذه الأمثلة: "أنّ الربّ ، بعدما خلّص شعبه من أرض مصر، أهلك مَنْ لم يؤمن به" (5) . يستفيد يهوذا، في هذا المثل، من الإيمان الذي حفظه شعب الله، ليرينا ما سيكون مصير الخطأة، فيحذّر الكافرين والمتوانين، وتاليًا قرّاءه، وينذرهم، بشدّة، مذكّرًا إيّاهم بحقيقة الدينونة. وذلك بأنّ الربّ، الذي "خلّص شعبه من أرض مصر" ، لا يترك الكفر من دون عقاب (يقول: "أهلك مَنْ لم يؤمن به"). فالدينونة هي من المسلّمات. وإن كانت ثمّة مسافة (زمنيّة) بين عمل الله الخلاصيّ وبين عقاب الأشرار، فهذا لا يعني أنّ دينونته لن تحصل .

ثمّ يورد يهوذا مثلاً ثانيًا. يقول: "أمّا الملائكة الذين لم يحتفظوا بمنزلتهم الرفيعة، بل تركوا مُقامهم، فإنّ الله يحفظهم لدينونة اليوم العظيم موثَقين بقيود أبديّة في أعماق الظلمات" (6). يعود يهوذا، في هذا المثل، إلى خطيئة الملائكة الساقطين ومصيرهم، ويستلهم، على الأرجح، قصّة أبناء الله الذين استحسنوا بنات الناس (تكوين 6: 1- 4)، وهو يشارك أخنوخ، الذي يعرفه قرّاؤه معرفةً جيّدةً، في أفكاره . هذه القصّة، (قصّة أبناء الله الذين استحسنوا بنات الناس)، دعت إلى الاعتقاد بوقوع حرب سابقة في السماء بين ملائكة الخير وملائكة الشرّ المتفاخرين الذين سقطوا من سماء الله (أشعيا 14: 12، 24: 21)، حيث هو مسكنهم الخاصّ (2كورنثوس 5: 2) . استعمل يهوذا هذا المثل، وهو نظير المعلّمين الكبار يأخذ لغة عصره ليتوجّه، بوضوح، إلى قرّائه، فألمح إلى الفوضى الجنسيّة التي تجعل المعلّمين الكذبة الذين "يجعلون نعمة إلهنا فجورًا" (4) على مستوى واحد مع الكائنات الشرّيرة (الملائكة الساقطين). وهدفه تذكير قرّائه، ولا سيّما المفتخرين بأنفسهم والذين يتحرّقون بالشهوة، بأنّ الله، الذي لم يعفُ عن الملائكة الذين تنجّسوا مع النساء، لن يترك الذين يحرّفون مقاصده، بسلوكهم الرديء، من دون دينونة. ركّز يهوذا على العقاب الذي ناله الملائكة الأشرار، وبآنٍ على ما سيصيب "الكفّار"، وهو، في الواقع، عقابان: الأوّل أنّهم قيّدوا "بقيود أبديّة في أعماق الظلمات"، والثاني أنّهم حُفظوا "لدينونة اليوم العظيم" . نقرأ في كتاب أخنوخ: "قال (الربّ) لرُفائيل (رُفائيل يعني: "شفاء الله"، ومهمّته توافق اسمه؛ راجع: طوبيا 6، 11: 7- 8): قيّد عزازيل بيديه ورجليه، وارمه في الظلمة... وليبقَ هناك إلى الأبد. غطِّ وجهه، فلا يبقى يرى النُّور. وفي يوم الدين العظيم (يوم الدينونة)، يقاد إلى أتون النّار" (10: 4- 6).

في المثل الثالث، يصف الكاتب زوال مدن السهل الخاطئة (7). ومثالها، في الأدبين اليهوديّ والمسيحيّ، "سدوم وعمورة"، وهما المدينتان اللتان نالتا عقابًا كبيرًا نتيجة انحرافاتهما الجنسيّة الوخيمة . ويضيف: "والمدن المجاورة"، وهي: أدومة وصبوئيم (أنظر: تثنية 29: 23 وهوشع 11: 8)، التي "فحُشَت مثل ذلك الفُحش، وسعت إلى كائنات من طبيعة مختلفة" (الترجمة اللفظيّة: "من جسد آخر"). يتلاقى هذا المثل مع ما جاء في الآيتين (الـ5 والـ6). وذلك بأنّ الكاتب يربط بين الملائكة ذوي الرتب العليا المفتخرين بأنفسهم الذين سعوا إلى "كائنات من طبيعة مختلفة" (النساء)، وبين لواطيّي سدوم وعمورة الذين أرادوا أن يفعلوا بملائكة ما لا يجوز فعله (تكوين 9: 15). وفي هذا تحذير آخر يوجّهه الكاتب إلى المعلّمين الكذبة الذين يعملون من أجل الفوضى الجنسيّة (ذلك بأنّ نجاستهم تفوق نجاسة أبناء سدوم وعمورة)، ولا يهابون الله، أو يأخذون عبرةً ممّا نالته المدن الخاطئة التي "جُعلت عِبرةً لغيرها ولقيت عقاب النار الأبديّة" (الآية الـ7)، لا سيّما أنّ الكارثة، التي حلّت بهذه المدن، تمكن رؤيتها، بوضوح، إلى الآن. ربّما يهوذا، في هذه الآية، يشير إلى البحر الميت الذي هو قريب من أورشليم، وهو شهادة دائمة على النار التي أحرقت المدن الخاطئة. ومن المعلوم أنّ النار الأبديّة تعني، في الكتب المقدّسة، نار جهنّم، وهذا يفيد أنّ تدمير المدن بالنار هو استباق للدينونة التي تنتظر الملائكة الأشرار والخطأة (أخنوخ 57: 4؛ رؤيا يوحنّا 19: 20، 20: 10 و21: 8). نقرأ في سفر الحكمة: "ولا تزال هناك للشهادة على شرّهم أرضٌ مقفِرةٌ يسطع منها دخان، ونباتٌ يثمر ثمرًا لا ينضج في أوانه، وعمودٌ من ملح قائم تذكارًا لنفس لم تؤمن" (10: 7).

تشكّل الآية (الـ8) خاتمةً للآيات السبع الأولى وفاتحةً جديدة. نقرأ: "وعلى ذلك فَمَثَل أُولئك كمثلها، لأنّهم في هذيانهم يُنجّسون الجسد، ويزدرون العزّة الإلهيّة، ويجدّفون على أصحاب المجد". يقدّم يهوذا، في هذه الآية، ثلاثة تصريحات عن الكفر المقيت: 1- تدنيس الجسد؛ 2- رفض المجد الإلهيّ؛ 3- التجديف. تؤكّد أولى كلمات هذه الآية، ("وعلى ذلك فَمَثَل أُولئك كمثلها")، أنّ يهوذا كان يريد، من عرضه أمثلته الثلاثة (5- 7)، أن يعطي الكافرين الذين يستندون إلى تعاليم ترتبط بأحلام اليقظة والخيال أو إلى وحي يدّعون أنّه صحيح (يقول: "في هذيانهم") ليشرّعوا خطاياهم، أن يعطيهم دروسًا لا يحسنون قراءتها، ولا يجدون فيها أيّ نفع. ثمّ يبيّن قذارة الخطايا التي ذكرها في الآية (الـ4). يقول: "ينجسّون الجسد"، وهي إيّاها: "يجعلون نعمة إلهنا فجورًا"، وفي آنٍ ما جاء في الآية السابعة عن خطيئة اللواطيّين (قابل مع: 2بطرس 2: 14- 18). "ويزدرون العزّة الإلهيّة"، والأرجح أنّه يقصد ما ذكره قَبْلاً: "وينكرون سيّدنا وربّنا الوحيد يسوع المسيح" (4)، وهو بذكره هذه الخطيئة يبيّن أنّ ثمّة ترابطًا وثيقًا بين التعليم الصحيح والحياة المستقيمة. وذلك بأنّ كلّ انتهاك للتعليم الإلهيّ ينتج، من دون ريب، انحرافًا سلوكيًّا، والعكس هو صحيح . ويضيف: "ويجدّفون على أصحاب المجد"، أي يسخرون بالمجد الإلهيّ الذي يشهد له ألوف من الملائكة، ويقصد أنّ الكفّار ينقضون الشريعة ويرفضون نصائحها الأخلاقيّة التي أعلنتها الملائكة (أنظر: أعمال 7: 38، 53؛ غلاطية 3: 19 وعبرانيّين 2: 2). ثمّ يذكر يهوذا خصام ميخائيل رئيس الملائكة مع إبليس، وهذا الخصام لم يرد في مكان آخر في العهد الجديد (أنظر: دانيال 10: 13، 21 و12: 11؛ طوبيا 12: 15) . نقرأ: "مع أنّ ميخائيل رئيس الملائكة، لمّا خاصم إبليس وجادله في مسألة جُثّة موسى، لم يجرؤ على أن يحكم عليه حكمًا فيه شنيعة، بل قال: "خزاك الربّ"" (الآية الـ9). وردت هذه القصّة في كتاب منحول من القرن الأوّل ب.م.، هو "صعود موسى"، حيث كُتب ما معناه: أنّ الله أرسل ميخائيل، ليدفن جثّة موسى (أنظر: تثنية 34: 6)، فعارضه الشيطان الذي ادّعى أنّ له سلطةً على هذا العالم المادّيّ الذي جسد موسى جزء منه، وحجّته أنّ موسى قتل رجلاً مصريًّا (خروج 2: 11- 12). يردّد يهوذا هذه القصّة (راجع: زكريا 3: 2)، ويريد منها أن ينتقد، بعنفٍ، أولئك الذين يجدّفون على الملائكة، أن ينتقد، أوّلاً، تجديفهم (أي عدم تشبّههم بميخائيل رئيس الملائكة الذي، وهو على حقّ، لم يتكلّم على إبليس كلامًا شنيعًا)، وينتقد، تاليًا، جهلهم: "أمّا أولئك فإنّهم يجدّفون على ما لا يعرفون" (الآية الـ10أ، راجع: الآية الـ8)، وينتقد انحرافاتهم الجنسيّة التي تدلّ على أنّهم يعيشون مثل البهائم التي لا عقل لها. يقول: "وما يعرفونه بطبيعتهم معرفة الحيوانات العُجْم، فإنّهم به يهلكون" (الآية الـ10ب). وهذا يعني أنّ خطاياهم الجنسيّة، التي تدلّ على انحرافهم وجهلهم، ستقودهم إلى الهلاك.

في الآية الـ11، يتبع يهوذا تقليدًا يهوديًّا متأخّرًا، فيذكر ثلاثة رجال رمزوا إلى القيادة الشرّيرة. نقرأ: "الويل لهم! سلكوا طريق قاين واستسلموا إلى ضلال بِلْعام من أجل أجرة ينالونها، وهلكوا في تمرّد قورح". يندّد يهوذا بهؤلاء الكفرة الذين يسيئون إلى إيمان الجماعة التي يكتب إليها ويعثّرون بعض أعضائها، فيعود، من جديد، إلى أمثلة من العهد القديم، ويذكر: قاين قاتل أخيه (هابيل)، وهو نموذج الشخص الحسود والوقح والمبغض والمحتقر الله والآخرين (تكوين 4: 1- 16؛ أنظر عبرانيّين 11: 4، حيث يصوّر قاين نقيض الإنسان المؤمن)، وبِلْعام، وهو معلّم كذّاب حرّض إسرائيل على أن يخون الله ويتبع البعل، وهو مثال الذين يخونون الله لقاء حفنة من المال (عدد 22- 24 و31: 16؛ وراجع: 2بطرس 2: 15- 16)، وقورح، وهو متمرّد ومتكبّر شكّ في سلطة موسى وهارون (عدد 16) اللذين عيّنهما الله، وهو صورة عن الذين يحرّضون المؤمنين ضدّ المسؤولين في الكنيسة . ويرى يهوذا أنّ أوصاف هؤلاء الرجال الثلاثة (قاين وبلعام وقورح) ، الذين رفضوا الله وانغمسوا بالشهوات، تنطبق على المعلّمين الكذبة الذين سينالون "الويل" عينه الذي أصاب هؤلاء. ويكمل وصفه بالآيتين التاليتين (من دون أن يرجع إلى العهد القديم). يقول: "هم الذين يدنّسون مآدبكم المشتركة (المحبّبة)، لا حياء لهم على المآدب، يكتظّون من الطعام" (الآية الـ12أ). نجد، في مطلع هذه الآية، أوّل ذكر، في العهد الجديد (ولعلّه الوحيد)، تأخذ فيه المآدب هذا المعنى الاصطلاحيّ: مآدب المحبّة (أنظر 2بطرس 2: 13). كان المسيحيّون الأوائل ينظّمون المآدب المشتركة، قَبْلَ عشاء الربّ، تذكارًا لِمَا فعله يسوع في علّيّة صهيون قَبْلَ صلبه (متّى 26: 20- 29 وما يوازيها). هذه المآدب (أعمال 2: 46؛ 1كورنثوس 11: 17- 34) التي كانت ترمز إلى المشاركة، وبخاصّة إلى مساعدة الفقراء وإلى الوحدة والفرح الإسخاتولوجيّ (الأخير)، لم تدم طويلاً. وذلك بأنّه قد تمّ الفصل بين الممارستين تجنّبًا لفوضى عرفها بولس (1كورنثوس 11: 21 و22؛ 2بطرس 2: 13). ما يريده يهوذا، في هذه الآية، هو أن يندّد بالمعلّمين الكذبة الذين كانوا يدنسّون "المآدب"، إذ كانوا يهتمّون حصرًا بالطعام: يملأون بطونهم من دون أن ينظروا إلى الآخرين أو المعاني التي تفترضها الممارسة. ويزيد، في وصف انحرافهم، باستعماله أشكالاً يأخذها من الطبيعة. يقول: "هم غيوم لا ماء فيها تسوقها الرياح. هم أشجار خريفيّة لا ثمر عليها ماتت مرّتين، واقتلعت من أصولها" (الآية الـ12ب). هذه الأوصاف تصوّر المعلّمين المتسلّلين إلى الجماعة كأشخاص متكبّرين (يضلّون الناس بكلامهم) وفارغين من الداخل لا ينفعون شيئًا (غيوم لا تمطر وأشجار لا تثمر). يقول: "أشجار... ماتت مرّتين": 1) لأنّها بلا ثمر، 2) ولأنّها "اقتلعت من أصولها". وهذه، من دون ريب، صورة للدينونة التي ستصيب الذين يستخفّون بالله ومقدّساته (ربّما يهوذا، باستعماله عبارة "ماتت مرّتين"، يقصد أولئك المعمّدين الذين يرتكبون الخطايا بعد معموديّتهم). أمّا الأوصاف التي تطالعنا بها الآية الـ13: "هم أمواج البحر العاتية زبدها خزي نفوسهم (قابل مع: إشعيا 57: 20). هم كواكب شاردة أُعدّت للظلمات الحالكة مدى الأبد"، فيريد بها أن يزيد في تصوير فساد أخلاق "الكفّار" الذين لا يتركون وراءهم سوى عار نفوسهم. ولعلّ صورة "الكواكب الشاردة" (كان الأقدمون يعتقدون بأنّ الملائكة هي التي تسوق الكواكب) التي تجاوزت وصيّة الربّ ولم تأتِ في وقتها فَقُرِّرَ لها عذاب أبديّ، هي استعارة من كتاب أخنوخ، وهي ترمز إلى سقوط الملائكة الذين تركوا مرتبتهم، ولم يثبتوا في المكان الذي حدّده الله لهم . إذًا، يقول يهوذا إنّنا لا نقدر على أن نثق بالمعلّمين الكذبة الذين لا يمكنهم أن يقودوا أحدًا إلى النُّور، لأنّ إبليس يقودهم، ولأنّهم معدّون، نظير إبليس، "للظلمات الحالكة مدى الأبد".

ثمّ يسند يهوذا كلامه، حول ضلال هؤلاء الكفرة والعقاب المعدّ لهم، إلى ما جاء في كتاب أخنوخ. يقول: "وقد تنبّأ عنهم أخنوخ سابع الآباء من آدم" (راجع: تكوين 5: 18- 23؛ لوقا 3: 37- 38؛ أخنوخ 1: 1- 3)، "إذ يقول: هوذا الربّ قد أتى في ألوف قدّيسيه ليجري القضاء على جميع الخلق ويخزي الكافرين جميعًا في كلّ أعمال الكفر التي ارتكبوها وفي كلّ كلمة سوء قالها عليه الخاطئون الكافرون" (الآية الـ14 والـ15). إنّ وصف يهوذا كتابَ أخنوخ (المنحول) بالنبوّة، وهو الكتاب الذي كان له اعتبار كبير في العالم اليهوديّ والذي امتدحه قديمًا بعض الكتّاب المسيحيّين، جعل بعض القدماء يشكّون في صحّة كتابه. طبعًا، يجب ألاّ نفهم أنّ يهوذا يوازي، هنا، بين أخنوخ والأنبياء القانونيّين. إنّه، فيما يصارع الكفّار والمبتدعين، يستفيد من إنباء أخنوخ وتهديداته، ليدعم قوله. وهذا، كما نوّهنا قَبْلاً، كان، قديمًا، من الطرائق الأدبيّة المعروفة. تؤكّد هاتان الآيتان (الـ14 والـ15) حقيقة الدينونة التي سيتمّها الربّ، في مجيئه، مصحوبًا بـ"ألوف قدّيسيه"، أي الملائكة القدّيسين، كما يرى أخنوخ (أنظر: عبرانيّين 12: 22 وتثنية 33: 2). أمّا الآية (الـ16)، فتسجّل خمس رذائل تشبه، جزئيًّا، الاتّهامات السابقة التي ذكرها الرسول في الآيات (الـ4 والـ8 والـ10 والـ12)، وهي مألوفة في أسفار العهد القديم وكتب الأبوكريفا. 1) "هم الذين يتذمّرون": يعترضون، ويحتجّون ، ويكفرون بالمسيح؛ 2) "ويشكون": يلعنون حظّهم، ويعتبرون أنّ الحياة غير عادلة، ويحتجّون على الله وتدبيره الخلاصيّ؛ وهذا ما يدفعهم إلى: 3) "ويتبعون شهواتهم": يبرّرونها بانتقادهم نظام الله؛ 4) "تنطق أفواههم بالعبارات الطنّانة": يهينون الله بأقوالهم المترفّعة والجارحة ؛ 5) "ويتملّقون الناس طلبًا للمنفعة": أي يحابونهم. وهذا يعني أنّهم يتملّقون الذين يتبعونهم، فيمتدحونهم، ويكرهون مَنْ يرفض كذبهم. ويعني، تاليًا، أنّهم يتودّدون للأغنياء، وهذه الخطيئة تعارض أخلاق الله الذي يحبّ الجميع، ولا يميّز بين الوجوه .

يجب ألاّ نظنّ أنّ يهوذا نسي، إلى الآن، قرّاءه وما كان يريد أن يكتبه لهم في البدء. فإنّ إدانته للكفرة تنفع المؤمنين. وذلك بأنّها تساعدهم، ليكتشفوا سوء الكفر، وتردعهم، تاليًا، من أن يتبعوا الكفّار، فيقتادوا بقاين وبلعام وقورح. وهذا ما سيوضحه الكاتب أكثر في الآيات التالية. يقول: "أمّا أنتم أيّها الأحبّاء، فاذكروا ما أنبأ به رسل ربّنا يسوع المسيح، إذ قالوا لكم: "سيكون في آخر الزمان مستهزئون يتبعون شهوات كفرهم". هم الذين يوجِدون الشقاق، إنّهم بشريّون ليس الروح فيهم" (17- 19). يعود يهوذا إلى أحبّائه (الكنيسة التي يوجّه إليها رسالته)، فيذكّرهم بما "أنبأ به رسل ربّنا يسوع المسيح" (راجع: الآية الـ3)، الذين لا توجد حقيقة كاملة خارجة عنهم. ويجعل كلمات الرسل موجّهةً إليهم الآن ("إذ قالوا لكم"). وهذا إنّما يعني أنّ الرسل موجودون، دائمًا، في حاضر الكنيسة، وأنّ تعليمهم حيّ، وتاليًا أنّ استقامة التعليم والحياة ركيزتها الأولى أن يكون المؤمنون واحدًا مع جماعة الرسل وتعليمهم، فلا ينجرفون وراء الأضاليل التي قال الربّ على لسان رسله إنّها ستظهر. ويستفيد يهوذا من ظهور بعض المستهزئين، الذين "يتبعون شهوات كفرهم"، ليرى، في ظهورهم، علامات "آخر الزمان" (قابل مع: 2بطرس 3: 3؛ و1تيموثاوس 4: 1- 3)، وليس نهاية الأزمنة أو الأيّام الأخيرة، كما اعتاد العهد الجديد أن يعبّر عن اليوم الأخير (أنظر: مرقس 31: 22 وما يوازيها). إنّه، إذًا، ينظر بعين الساهر نحو ظهور الضلال (الذي يذكّر بزمن النهاية لا بنهاية الأزمنة)، فلا يحدّد وقت "اليوم الأخير" الذي لا يمكن لأحد أن يتوقّعه، بل يتكلّم على زمن المحنة الذي يسبّبها المعلّمون الكذبة، فيدعو الكلّ إلى مواجهة الشرّ بالعودة إلى تعليم الرسل الذي يقدر، وحده، على أن يحفظ الكنيسة أمينةً للربّ. ويذكّر، تاليًا، بـ"السهر" (أنظر: متّى 24: 42- 44؛ مرقس 13: 33- 36؛ لوقا 21: 34- 36) الذي يفترض اندماجًا في الجماعة الحقّ، ورفضًا لكلّ شهوة كافرة تقوم على رفض الشرائع المقدّسة وتحريف معانيها، ولكلّ انشقاق يزعم روّاده أنّهم هم الكنيسة. وذلك بأنّ الشهوة الكافرة والانشقاق هما من العلامات البشريّة (الحيوانيّة) التي لا علاقة لروح الله بها .

في المقطع التالي (الآيات 20- 23)، يوجّه يهوذا إرشاداتٍ أخيرةً إلى قرّائه، فيعدّد الفضائل الثلاث (الإيمان، والرجاء، والمحبّة) التي يجب أن يحوزها كلُّ مؤمن (راجع: 1تسالونيكي 1: 3؛ 1كورنثوس 13: 13). يحضّهم، أوّلاً، على بنيان أنفسهم على الإيمان المقدّس (يقول: "ابنوا أنفسكم على إيمانكم المقدّس")، أي على الوديعة المقدّسة التي تسلّمتموها، وهي الوديعة الفريدة والقادرة على أن تحوّل الناس إلى الله (أنظر: الآية الـ3، أمّا موضوع الإيمان، فيقوم على الاعتراف بيسوع "ربًّا وحيدًا"). ويضيف: "وصلّوا بالروح القدس" (20؛ رومية 8: 26) الذي يكفل، وحده، ثبات المسيحيّين في وحدة الإيمان "المقدّس"، وينقذهم من كلّ نِفاق يميت. يقول لهم: "صلّوا بالروح القدس"، (وقد يكون المعلّمون الكذبة تركوا الصلاة)، لأنّكم لا تستطيعون أن تواجهوا التعاليم المنحرفة بالحجج العقليّة فحسب (2كورنثوس 10: 3- 5). صورة "البنيان" معروفة في العهد الجديد، ويستعملها بولس تكرارًا ، وهي تفترض وعيًا شخصيًّا للإيمان ومقتضياته. بمعنى أنّ كلّ مؤمن هو حجر حيّ في البناء (الكنيسة)، ويساهم في ارتفاعه، وذلك بارتباطه بالرأس (الذي هو المسيح) وبالأخوة. ما يريده يهوذا، إذًا، هو ألاّ يستكين المؤمنون في التزامهم، بل أن يبقوا في حركة تصاعد ونموّ، أساسها المحافظة على الإيمان المقدّس الذي "سلّم إلى القدّيسين تامًّا"، والاندماج في الجماعة التي يهديها الروح القدس إلى معرفة الحقّ (لأنّ الشريعة والحياة لا ينفصلان، والإيمان ينمو بالأعمال). ويضيف: "واحفظوا أنفسكم في محبّة الله" (الآية الـ21أ؛ راجع: يوحنّا 15: 9)، أي بقبولكم محبّة الله ومبادلتكم إيّاه بالشعور عينه. ما يجب أن نعرفه، في هذا السياق، أنّ محبّة الله هي عطيّة منه. فالمؤمنون يقدّمون لله ما أودعه هو في قلوبهم، أي يحافظون عليه من دون تعدٍّ أو تشويه أو تبرير. هذا، وحده، يؤهلّهم لأن "ينتظروا رحمة ربّنا يسوع المسيح من أجل الحياة الأبديّة" (الآية الـ21ب). وذلك بأنّ الأمانة لله هي التي تجعل المؤمنين لا يخافون من الدينونة. هذا لا يعني أنّهم يثقون بإنجازاتهم، فيطمئنّون إلى أنّهم واصلون إلى "الحياة الأبديّة"، لكن (يثقون) بعطيّة الرحمة التي يهبها الله للذين ينتظرونه بقلوب نقيّة وحبّ، ويعملون بموجب مقتضياته (نلاحظ في هاتين الآيتين ذكر الله المثلّث الأقانيم: الروح القدس والآب والربّ يسوع المسيح).

هذا يدفع الرسول إلى التوجّه إلى المؤمنين الذين يكتب إليهم، فيذكّرهم - والعبارات صعبة - بمسؤوليتهم داخل الجماعة وما ينتظر منهم أن يعملوه. يقول: "أمّا المتردّدون، فارثوا لهم (قراءة مختلفة: "حاولوا إقناعهم")، بل خلّصوهم منتشلين إيّاهم من النار. وأمّا الآخرون، فارثوا لهم على خوف، وأبغضوا حتّى القميص الذي دنّسه جسدهم" (الآية الـ22 والـ23). لا نعلم حقيقةً إن كان يهوذا يقصد هنا نوعين من الخطأة أو ثلاثة أنواع. ففي الآيتين (الـ22 والـ23أ)، يدعو المؤمنين إلى أن يرثوا (يرحموا) المتردّدين (الذين يميلون آذانهم إلى أقوال الكفر)، وأن يسرعوا في العمل، لينتشلوهم "من النار" (هي استعارة من نبوءتَي عاموس 4: 11؛ وزكريا 3: 2، وتشير إلى العقاب الأخير)، ويبيّنوا لهم ضلالهم وخيانتهم دعوتهم. لا يوضح يهوذا ما هو مضمون عمل المؤمنين مع هذا النوع أو النوعين من الخطأة (الأفضل أن نجد في هذين النوعين نوعًا واحدًا). غير أنّه يرى أنّه من الممكن إنقاذهم. أمّا الفئة الأخيرة (النوع الثاني) التي تذكرها الآية (الـ23ب)، فلا يرى يهوذا أنّ محاولة ردعهم قد تنفع. فيدعو المؤمنين إلى تسليمهم إلى رحمة الله ("ارثوا لهم على خوف")، والابتعاد حتّى عن لمسهم .

ينهي يهوذا رسالته بمجدلة تشبه كلماتها التسابيح الواردة في العهد الجديد (أنظر: أفسس 3: 20؛ 1تموثاوس 1: 17؛ 1بطرس 4: 11؛ ورومية 6: 24). نقرأ: "للقادر على أن يصونكم من كلّ زلل، ويحضركم لدى مجده مبتهجين، لا عيب فيكم، للإله الواحد مخلّصنا بيسوع المسيح ربّنا المجد والجلال والعزّة والسلطان، قَبْلَ كلّ زمان والآن ولأبد الدّهور. آمين" (الآية الـ24 والـ25). يتوافق نموذج إبدال تحيّة المرسل الأخيرة بتسبيح مع بعض الرسائل القديمة (أنظر، مثلاً، ختم رسالة بطرس الثانية). ما نلاحظه في فاتحة هذه المجدلة ("القادر على أن يصونكم من كلّ زلل") أنّها تجعل التسبيح يوافق وضع مستلمي الرسالة. فهذا الصون يعطيه الله بيسوع سيّد العالمين الذي ينقذ (يصون) شعبه الوفيّ "من كلّ زلل"، ويعطيه أن يكون حاضرًا في مجده بابتهاج ومن دون عيب (أفسس 1: 4؛ كولوسّي 1: 22). فالله، الذي قال عنه يهوذا إنّه ديّان "الكفّار"، يقدر على أن يعطي أحبّاءه، في هذا الزمان، ألاّ يسقطوا في إثم الكافرين، وأن يفرحوا به، فلا يخافون من الدينونة. وهو، تاليًا، يهبهم أن يروا بهجة يومه الأخير. لا يرى يهوذا أنّ عطاء الله يقتصر على اليوم الأخير فحسب. فهذا (اليوم الأخير) نستطيع أن نتذوّق بركاته في هذا الدهر. وذلك بأنّ المسيحيّة ليست ديانةً يهب الله عطاءاته فيها حصرًا في المستقبل، بل يبهج الله، في هذا الدهر أيضًا، الواثقين به والمخلصين لمقتضيات شريعته.

ما من شكّ في أنّ الله واحد ومخلّص في آنٍ. ثمّة رباط وثيق بين وحدانيّته وعمله الخلاصيّ الذي أتّمه بيسوع ربّنا (رومية 10: 9؛ فيلبّي 2: 11). وهذا الخلاص هو مشيئة الله المثلّث الأقانيم الأزليّة التي كشفها وحقّقها في التاريخ. ولذلك يليق به، وحده، "المجد والجلال والعزّة والسلطان" في كلّ زمان ومكان. وما من شكّ، أيضًا، في أنّ الذين ينكرون على الله حضوره (خلقه وخلاصه) من الأزل وإلى الأبد سيبقون في الكنيسة والعالم. وهؤلاء لهم من يدينهم. أمّا المؤمنون، فلهم أن يحفظوا أنفسهم بمحبّة الله والإخلاص له، وأن يعملوا من أجل توبة "المتردّدين"، وأن يصلّوا للذين يتصلّبون على موقفهم المميت، وعليهم، دائمًا، أن يسبّحوا الله، ويمجّدوا عظمته وجلاله وعزّته غير المحدودة، ويقولوا بخشوعٍ كبير: "آمين".

- نُشرت في مجلّة النّور
المصادر والمراجع:

1- الكتاب المقدّس، دار المشرق ش م م، بيروت، 1991.

2- الفغالي، الخوري بولس، رسالتا يعقوب ويهوذا إلى الكنيسة الجامعة، محطّات كتابيّة 9، الرابطة الكتابيّة، بيروت، لبنان، 1997.

3- المرشد إلى الكتاب المقدّس، (مجموعة من المؤلّفين)، جمعيّة الكتاب المقدّس في لبنان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، 1996.

4- معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت، 1986.

5- الفغالي، الخوري بولس، أخنوخ سابع الآباء، الرابطة الكتابيّة، 1999.

6- THE INTERPRTER'S ONE - VOLUME COMMETARY ON THE BIBLE,

EDITED BY: CHARLES M. LAYMON, ABINGDON PRESS-NASHVILLE, 1971.

7- LES DERNIERES EPITRES, E. COTHENET - M. MORGEN - A. VANHOYE, BAYARD EDITIONS/CENTURION, PARIS, 1997.

8- The Jerome Bible Commentry, GEOFFREY CHAPMAN, LONDON, 1980.

9- THE GENERAL EPISTLE OF JUDE, BY MICHAEL GREEN, LONDON, THE TYNDALE PRESS, 1968.

شارك!
Exit mobile version