"إنّ "إيقونة" الزواج، في الأفلام والمجلاّت، دائمًا ما تكون شابًّا وفتاة. لكنّ كاتب هذه السطور عاين، ذات مرّة، بعد ظهر يوم خريفيّ نيّر دافئ، رجلاً وامرأةً فقيرين طاعنين في السنّ جالسين على مقعد في ساحة عامّة من ساحات ضاحية باريسيّة فقيرة. كانت يداهما متشابكتين، يستمتعان، بصمت، بالنور الباهت، بالدفء الخريفيّ مودِّعًا. كلّ شيء كان في صمت. كلّ الكلام بينهما قد قيل، كلّ الشهوة استنفدت، كلّ العواصف هدأت. كلّ الحياة كانت إلى الوراء. ومع ذلك، كلّ الحياة كانت، الآن، ماثلةً في ذاك السكون، في ذاك النور، في ذاك الدفء، في وحدة الأيدي الصامتة. كلّ شيء بدا حاضرًا، مستعدًّا للأبديّة، ناضجًا للفرح. هذه، عندي، هي رؤية الزواج ورؤية جماله السماويّ" (الأب ألكسندر (شميمن)، من أجل حياة العالم، صفحة 127).
في عالمٍ تأخذه غير خدعة، تبدو هذه السطور المنقولة مفرداتٍ عقيمة، كلماتٍ وُضعت ليقرأها المكفوفون، أفكارًا غبيّةً لا تمتّ إلى المنطق بأيّ صِلة! فما كتبه الأب الكسندر (شميمن) عن مشهد عاينه، إنّما كتبه إلى عالمٍ لمّا ينهِ كثيرٌ من أهله سنّ المراهقة، عالمٍ متخلّف، عالمٍ له معاجمه البالية وقواعد فهم استقاها من مصحّات المجانين. لقد أفاده مشهد في ساحة عامّة، ليرمي على ساحات واقعنا العامّ، ولا سيّما على مَن ارتبطوا في عهد الزواج، عن علم منهم أو غير علم، أنّ الزواج عهد دائم، لا يبدأ في الأرض، بل في ملكوت هو مرتجى أهل الأرض، أي ليذكّر برؤية الكنيسة العامّة التي لا تنفكّ تؤكّد، في كلّ سرّ من أسرارها، في كلّ كلمة من كلماتها وإشارة من إشاراتها، أنّ "الإنسان يكتمل بانتمائه إلى ملكوت الله" (صفحة 108).
أن ننتمي إلى ملكوت الله، يعني أن ننتمي إلى الربّ وحده. يعني أن نرى حياتنا، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، على ضوء ما خرج من فمه، أن نراها في الحبّ الذي بذله من أجل جمالنا وكمالنا. فملكوت الله هو مسيح الله الذي أتى، وكتب مصيرنا بدمه، أي الملكوت هو إله رسم أن نحبّه في مَن أحبّهم، ومات عنهم. وهؤلاء، الذين هم الناس أجمعون، هم مَن كانوا معنا وإلينا أوّلاً. هم زوجتي وأولادي وإخوتي وأصدقائي. فأنا لا أقدر على أن أمدّ محبّة الله في الأرض إن قفزتُ فوق مَن أحيا وإيّاهم في شركة مصير.
كلّ هذا بدأ لي يوم معموديّتي. فالملكوت لا أقدر على أن أنتمي إليه، حقًّا، إن لم أخلص لذاك الحدث، الذي لا يشبهه حدث، ذاك الذي اختطفني الربّ فيه إليه في شبه موته، وأقامني معه إنسانًا جديدًا (رومية 6: 3- 5). في تلك المياه المقدّسة، عاهدت الله، في كلّ ما سأقوله وأفعله وارتباط سأقيمه، أن "أنسى (دائمًا) ما ورائي، وأتمطّى إلى الأمام، فأسعى إلى الغاية" (فيلبّي 3: 13)، أي إليه هو وحده، هو الذي دعاني، في معموديّتي، إلى أن أتبعه ما دمت قادرًا على أن أمشي، ومتى خانتني قدماي، إلى أن يتبعه قلبي. فالمعموديّة، وإن كانت، صوريًّا، نزولاً في الماء، إلاّ أنّها، واقعيًّا، سير دائم، في الله، إليه.
ربّما يعجب قارئ من الكلام على الانتماء إلى ملكوت الله في تعليقنا على مشهد زوجين رواه كاتب من دون أن يذكر الله، لفظًا، مرّةً واحدة. وحسبي، إذا دقّقنا في ما قاله كاتبنا، أنّ حروفه تعجّ بذكر الله. فالله حاضر، كلّيًّا، في المحبّة والوفاء، وفي السكون والنور والدفء وتشابك الأيدي، وفي الاستعداد الناضج لفرح الأبديّة. بلى، لقد رأى الأب (شميمن) الله في مشهد. لقد أُعطي أن يرى ما يعرف أنّ الكنيسة تعلّمه، أي أنّ الزواج مطلّ لله في الأرض. رأى، ويريدنا أن نرى، في قراءته العجيبة، بلاغة تحقيق دعوة الانتصار على اللحم والدم اللذين "لا يسعهما أن يرثا ملكوت الله" (1كورنثوس 15: 50). أرادنا أن نرى أنّ الزواج، في جوهره، ثورة ضدّ الخطيئة، ضدّ أناي وانفعالاتي وكوني أرى نفسي محور الوجود. وهذا، إن استطاع شابّان أن يقولاه في مطلع زواجهما، غير أنّ قولهما لا يكون كاملاً إن لم يستمرّ دائمًا، في كلّ لحظة، في كلّ يوم، إلى أن يصلا، إن شاء ربّهما، إلى شيخوخةٍ خلّفت وراءها كلّ ما في الشباب من نضارة وعزم وشهوة وأحلام.
رأى الأب (شميمين): "رجلاً وامرأةً فقيرين". وهذا يجب أن يكون قد استقاه من منظرهما، وتاليًا من ساحة الضاحية الباريسيّة الفقيرة التي كانا قاعدين فيها. ليس لنا، في تأمّلنا، حقّ أن نفترض، فنعتبر، مثلاً، أنّ الكاتب قد أصرّ على ذكر الفقر، ليفتح لنا باب نجاتنا على مصراعيه، أي أن يؤكّد أنّ رؤية الكنيسة للزواج (ولغيره) شرطها أن نقتنع بالفقر سبيلاً إلى الغنى الحقيقيّ. لكن، لِمَ لا! فالفقر، كنسيًّا، لا يتعلّق برداءة أوضاعنا المادّيّة فحسب، ما نملكه وما لا نملكه، بل بالحياة الراضية التي لا يقدر مال الدنيا على أن يشتريها. لقد رأى الكاتب "رجلاً وامرأةً فقيرين"، أي فقيرين إلى الله وأحدهما إلى الآخر. رأى زوجين غنيّين في المحبّة، وحرّين من غير عقدة تفتك بالكثيرين الكثيرين. دنيا الواحد وجه الآخر، حضور الآخر، فرح الآخر، حاجته إلى الآخر، وعيه أنّه لا شيء من دونه، أنّه يتقدّس به، بإخلاصه له. رأى، وأرادنا أن نرى، أيًّا يكن وضعنا الاجتماعيّ، أنّ الله جعل لنا الزواج موئل فضائل، لنحيا، ونكتفي.
إن خرجنا إلى ساحات مدننا العامّة، فقد نجد أزواجًا "مستعدّين للأبديّة، ناضجين للفرح". ولكنّ الأب ألكسندر (شميمن)، في ما كتبه، لا يريدنا أن نخرج إلى أيّ مكان، لا يريدنا أن نبحث خارجًا، بل أن نرمي عنّا كلّ وهْم يخدع أهل العالم، ونُدخل الله في حياتنا، ليكون زواجنا إطلالةً لملكوته الأبديّ.