الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

ديمومة المعموديّة

الكلام في المعموديّة وديمومتِها بات غريبًا عن الواقع في زمن يقتبل الكثيرون فيه السرَّ المقدّس بحكم العادة الاجتماعيّة، أو ما يشبه ذلك (حدث فرديّ أو عائليّ...). والقلّة العزيزة هي التي تفهم أنّه سرّ الجماعة، وترتضي متطلّباته في حياتها اليوميّة، أو تساهم في احتضان مُتّخذيه، ليتمّ ما طَلَبَهُ الرسول في رسالته إلى كنيسة أفسس، حيث قال: "البسوا سلاح الله الكامل... لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن تُتمّموا كلّ شيء أن تثبتوا" (6: 11 و13). غير أنّ الحقيقة مسؤوليّة والتزام. والذين حفظوها، وسلّمونا إيّاها، هم، في البيعة، حاضرون معنا يُلِحّون على إتمامها من طريق العمل بمقتضياتها قولاً ومسلكًا. سوف نركن، في هذه العجالة، إلى الغسل الواحد سرًّا كما فهمه الشهود الأوّلون مؤسّسًا على التوبة الواحدة ومستمرًّا بمحبّتها، علّنا في ما نتوق إلى الحقيقة نسعى إلى إصلاح مفاهيمنا، ونعيد النظر بالتزامنا.

عندما تقول الأرثوذكسيّة إنّ المعموديّة هي سرُّ الجماعة، فهذا ينفي في مفهومها كلَّ أنواع الفرديّة نفيًا كلّيًّا. وذلك لأنّه لا يوجد في المسيحيّة الحقيقيّة مسيحيّ بمفرده، أي من دون انتماء إلى جماعة الله يحيا فيها ومعها بنوَّتَه لله أبيه، وذلك بعد أن يخرج من "رحم أمّه" الذي هو المعموديّة، كما يشبّهها كليمنضس الإسكندري. هذا ما بيّنه الرسول بولس بقوله: "إنّا قبلنا المعموديّة جميعًا في روحٍ واحد لنكون جسدًا واحدًا" (1كورنثوس 12: 13)، وهذا يدلّنا على أنّ المسيحيّين الذين هم جماعة المسيح وتاليًا جسدُه، يُؤلِّفون شركة في الأسرار، وبتشديد أكبر نردّد ما قاله الأب جورج (فلورفسكي): "إنّ الأسرار تؤلّف الكنيسة". ما يعني، في آنٍ، تواصلَ المسيحيّين مع رأسهم الذي هو المسيح وبعضهم مع بعض، وتاليًا إخلاصًا لتجلّياتٍ لله تُعطى في الأسرار ولمقتضياتها في الحياة اليوميّة.

أوّل دراسة ليتورجيّة ظهرت عن سرّ المعموديّة، قبل مجمع نيقية، هي التي وضعها العلاّمة الإفريقيّ ترتليانوس ردًّا على الحجج العقلانيّة التي طلعت بها "كنتيلاّ" Quintilla المنتمية إلى إحدى الشيع الغنوصيّة (العرفانيّة) المعروفة باسم الـ"قاينييّن" Cainite، يقول العلاّمة القرطاجي في مقدّمة دراسته: "لكنّنا نحن، السمكات الصغيرة  الذين أخذنا اسمنا من يسوع المسيح نولد في الماء، ولا نخلص إلاّ إذا بقينا فيها". يدلّنا هذا القول، في السياق عينه، على أنّ المعموديّة هي التي تعطينا وجودنا وشخصيّتنا في المسيح، ويؤكّد على أنّ الخلاص الذي هو مجّانيّ هو أيضًا مسؤوليتُنا أمام الله وعلينا أن نحفظه بمحبتنا للربّ ووفائنا لإيماننا وترسّخنا بمواعيده.

هذا الإخلاص للمعموديّة تُبَيّنُه الجدّيّة التي ظهرت في سلوك المسيحيّين الأوائل وكتاباتهم، فهو عندهم موقف شخصيّ لا يزعزعه الخوف من الموت ولا إغراء الخطيئة. في كتاب "الراعي" لهرماس (القرن الثاني) نقرأ: "بعد تلك الدعوة المقدّسة (المعموديّة) إذا جرّب الشيطان أحدًا أو أخطأ ليس إلاّ توبة واحدة" (وهذا له جذوره في الرسالة إلى العبرانيّين 6: 4- 6)، وهذا يعني أنّ الكنيسة، بحسب هرماس، لم تسمح لأعضائها بأيّ تهاونٍ مهما كان عذره أو نوعه، كما يعلّق الأب ألكسندر شميمن، وذلك لأنّها كانت تنتظر دومًا منهم أخلاقًا عالية وانضباطًا في الحياة الكنسيّة. وهذا ما قال به الكثيرون أيضًا، ففي نظر ترتليانوس، مثلاً، هناك توبتان: واحدة، وهي الأكثر أهمّيّة، يتهيّأ بها المزمع أن ينال المعموديّة، وثانية بعد المعموديّة تعيدنا إلى شراكة الكنيسة من بعد زلل. وكذا تبعه القدّيس إيريناوس أسقف ليون الذي اعتبر أنّ المخلّصين قسمان، القسم الأوّل هم الذين نالوا نعمة الله وأخلصوا لها طوال حياتهم، والقسم الثاني هم الذين أخطأوا بعد نيل النعمة وعادوا فحافظوا عليها من خلال توبتهم... هذه الموازاة بين "معموديّة واحدة" و"توبة واحدة"، في كتابات الآباء الأوّلين، هي بحقيقتها صورة الحياة الجديدة على أساس أنّها التزام واحد موصول، أنّها وعي مستمر مخلص للسرّ الذي أُعطينا به أن ندرك أنّ الدعوة الحقيقيّة هي أن نبقى بشرًا جددًا سالكين في النُّور الذي هو يسوع وشاهدين لخلاصه في هذا العالم المُظلِم.

لا شكّ في أنّ التوبة في مفهوم الكثيرين اليوم تختلف كليًّا عن التوبة الواحدة التي قال بها كاتب الرسالة إلى العبرانيّين وهرماس وترتليانوس وإيريناوس... وغيرهم. وذلك لأنّ ضعفنا وتهاوننا هما اللذان جعلا الكنيسة كأُمٍ رؤوف تسمح للذين زلّوا وكرّروا زلاّتهم بالعودة إلى أحضانها، ولا شكّ أيضًا في أنّنا احتجنا، لأجل لملمة جراحاتنا وآلامنا، الركونَ إلى صورة الإله الرحيم وإبرازها فوق كلّ الوجوه الأخرى التي كشفها لنا الوحي عنه. ممّا جعلنا كثيرًا ما نتناسى أنّ الحديث عن الرحمة، في كلّ الكتاب المقدّس وكتابات الآباء القدّيسين، هو حديث عن الله الذي يقبل الخطأة لا ليبقوا على خطيئاتهم أو يكرّروها، وذلك لأنّ الله القدّوس الغيور لا يقبل في معيّته المتهاونين الفاترين، وِفْقَ قولِهِ المبارك: "ليتك كنت باردًا أو حارًّا! هكذا لأنّك فاتر، ولست باردًا أو حارًّا، أنا مزمع أن أتقيّأك من فمي" (رؤيا يوحنّا 3: 16). فالله رحيم وهو بآنٍ عادلٌ أي أنّه الديّان، فاختيار وجه واحد من الوجهَيْن للتعامل معه يُصَنِّمُهُ، الإله الذي هو فقط رحيم هو صنم والذي هو فقط ديّان هو أيضًا صنم، الله هو بآنٍ رحيم وديّان، ورحمته ودينونته هما وجهان لمحبّته الواحدة.

أن نتأمّل مليًّا في قراراتنا والتزامنا ونفحصهما على ضوء الحقيقة التي لا تتغيّر هو أكثر ما نحتاج إليه اليوم، لأنّ الله الذي أعطانا أن نكون على صورته وهبنا ما يمكّننا من أن نحقّق كمالنا. من المفيد أن نذكر أنّ "الكمال" هو واحد من الأسماء التي أطلقها كليمنضس الإسكندري على سرّ المعموديّة، حيث قال: أمّا الكمال فلأنّه "لا ينقصنا معه شيء"، ولأنّنا "لا نعود نخطئ أبدًا". كيف نحيا بلا خطيئة؟ قد يكون السؤالُ سؤالَ المتهاونين الذين جزموا أنّ الإنسان لا يقدر أن يحيا من دون أن يُخطئ، وذلك - لا ندين أحدًا - ليبقوا على موقفهم وعلى ابتعادهم عن الله الذي يغيّر العالم ولا يتغيّر. ولكنّه أيضًا سؤال الجدّيين المتقدّسين الذين لكونهم يأتون من كلمة الله يدركون أنّ: "كلّ مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطيئة" (1يوحنا 3: 9)، وهذا يعني أنّهم (أي المولودين من الله) يسعون إلى الكمال عن طريق محبّة السيّد ومحبّة الإخوة، كما أوحى المغبوط أغسطينوس في تفسيره للآية عينها، وذلك أنّ مَنْ انخرط في "تيّار المحبّة الذي يحييه الرّوح ويغنيه" يفتح كيانه ليتقبّل دائمًا تقويم الأخوة الذي من الرّوح. أن نحبّ بعضنا بعضًا، يعني أوّلاً أن نساعد بعضنا البعض على التخلّص من كلّ ما يعيق تقدّمنا واتّحادنا بالله. فالعلاقة بين أعضاء الجماعة الكنسيّة التي هي الإطار الأمثل للثبات في البِرِّ، لا تقوم على المسايرة والمصلحة الفرديّة، وإنّما على إصلاح الآخر وإعلائه، فالآخر هو عملي في الربّ، وعلى قدر اهتمامي بقداسته فأنا أحبّه.

هذا السعي الحثيث إلى كمال الحبّ الذي يفترض قداسة الآخر لا يقيم الناس الملتزمين في الكنيسة أبرارًا في عينَيْ أنفسهم وهو، تاليًا، لا ينفي كونهم من البشر معرّضين للسقوط، كما يوحي الرسول بولس، إذ يقول: "مَنْ يظنّ أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط" (1كورنثوس 10: 12). ولعلّ أفضل ما قيل في المسيحيّين هو أنّهم: "خطأة يتوبون" - كما علّم أبونا القدّيس أفرام السّوري - أي أنّهم في ما يعترفون بهشاشتهم هم في حركة توبة مستمرّة، ولعلّه يقصد أنّهم قياسًا على مجد الله هم في بشاعة كبرى. ولا غروَ من أن يكثر في صلواتنا طلبُ الرحمة، وذلك لا لأنّ الله لنا ملجأٌ بعد تعدٍ وحسب، ولكن لأنّنا أمام مجده وقداسته، لا سبيل لنا إلاّ أن نصرخ: "يا ربّ ارحم".

أن نبقى على نقاوة الغسل الأوّل هو أن نقيم في محبّة التوبة الواحدة غير منفصلين عن الله وأحبّائه، وأن نهرب من الكسل والأنانيّة ونتجنّد ليكون الله سيّدًا على كلّ قلب بشري ووحده إله العالم.

(مجلة النُّور، العدد الثالث، 1997)
شارك!
Exit mobile version