مقدّمة
أعلى ما يثيرني، في هذا العنوان (دور الحركيّ...)، أنّه يفيض عطرَ أنّ ما أراده الله هو شأن بشر خصّهم روحه بإنعاماته الغنيّة، ليسعوا إلى تثميرها ومدّها إلى آفاق لا تنتهي. لا أعتقد أنّ مَنْ أرادنا، اليوم، أن نتأمّل في دورِ كلٍّ منّا في آفاق الرعاية يريدنا أن نعتقد بأنّ العمل، في هذا المدى المبارك، يخصّنا حصرًا. فأنطاكية تخصّ الجميع، ولا سيّما الذين يدركون أنّها تخصّهم.
أن نعي أنّ لنا دورًا في الخدمة، هذا، لعمري، يحكمه أنّنا قائمون، لنخدم ما أوحى به الله إلى أناس من غير نوع، إن ساعين إلى الطاعة أو مشغولين بأمور ترضيهم. هذا التفاوت في الالتزام، الذي نراه في ما بيننا، يبدو أنّه مصير الدنيا إلى منتهى الدهر. هل أدين؟ لا بتاتًا. هل أقول إنّ الناس المشغولين بما يرضيهم قومٌ مصلوبون على ما هم عليه أبدًا؟ أيضًا، لا بتاتًا. دائمًا، معرفة الواقع هي التي تعين في خدمته. والخدمة حبّ، حبّ لمن شغلهم الحبّ ولمن شغلوا أنفسهم عنه. ولا يؤجّج الحبَّ أمرٌ كما أن نعرف أنّ كلّ مَنْ هم قائمون معنا وحولنا قومٌ دفع ربُّنا دمَهُ ثمنَ خلاصهم، قومٌ محبوبون سواء أدركوا هذا أو لم يدركوا. أن نبتعد عن حبّ بعض الناس، أو أن نركن إلى مَنْ نحسبهم أجدر بأن نحبّهم مِنْ سواهم، أمر يوحي بأنّنا لم نفهم، تمامًا، أنّنا خدّام وحي إله ليست عنده محاباة. إن حابَيْنَا وجوهًا في خدمتنا، نقول، من حيث ندري أو لا ندري، إنّ ما فعله الله لنا، وقبلناه، لا يقدر على أن يفعله مع سوانا. أمّا إن أدركنا أنّ حياتَنا كلُّها عجبٌ لا نستحقّه، فنرمي أنفسنا في بحر الخدمة التي ستهبنا أن نندهش بأعاجيب لا تنتهي.
إذًا، الناس كلّهم مسؤوليّتنا.
مَنْ قرأ الأدب النهضويّ، لا يفوته أنّ روّاده سلخوا عن واقعنا أنّ خدمة المؤمنين محصورة بِمَنْ كلّفوا الخدمة (الأساقفة والكهنة مثلاً). فنحن قلنا، منذ انطلاقتنا، إنّ عمل الله، وفق تراثنا، يخصّ الجميع. لم نشعر حينئذٍ، ولا نشعر اليوم، ولن نفعل غدًا، بأنّ هذا، مسكوبًا علينا، يتضمّن غرورًا ممقوتًا. فالغرور قائم، بكلّ روائحه النتنة، في البطالة، وفي مدّ الرجلَيْن كسلاً، وفي منع شعب الله من أن تُطلق مواهبُهُ التي تغني الكلّ. أن نكون قلنا، في غير زمن جدّدنا فيه انطلاقتنا، إنّ الخدمة تخصّ الجميع، لهو أمر حرّكه إيماننا بأنّ الكنيسة هي كنيسة الروح القدس. ولذلك لم نرَ حرجًا أن نعلن أنّنا مساهمون في خدمة الرعيّة. إن كانت الرعيّة بيت الله، وإن كنّا أبناء البيت، فالخدمة تعنينا أيضًا. وإذا رجعتُ سريعًا إلى زمن انطلاقة الحركة، لا أرى صحيحًا أنّ خدمتنا أطلقها أنّ أرضنا كانت "خربة خالية". هذا يقوله غيرنا (لغير سبب!). وأمّا الواقع، فإنّ خدمتنا أطلقتها مصالحةُ الوعي أنّ الكنيسة هي كنيسة الروح القدس. وهذا لا ينحصر بجيل من دون آخر، بل يعوزه كلّ جيل. ولذلك لا أرى صحيحًا أيضًا أن يقال اليوم إنّ أرضنا "جنّة ريّا"، ليُستنتَج أنّ زمن الحركة قد انتهى! ويفهم المتابع هذه الكلمات أنّ "جنّة ريّا" صورة أدبيّة عن زعم الزاعمين أنّ عدد الخدّام المتعلّمين قد ازداد بيننا. فإن كانت الكنيسة كنيسة الروح القدس، كما قلنا إخلاصًا لربّها، أي كنيسة جميع الذين أنعم عليهم روح الله بمواهبه، لا تكون كنيسةَ بعضٍ، وإن متعلّمين، وإن كهنة وأساقفة متعلّمين.
الآفاق الرعائيّة
هذا يقودني إلى أن أتأمّل في صلب عنواننا (دور الحركيّ...). وعلى إحساسي بأنّ هذا العنوان يحضّنا على أن نمدّ أنظارنا نحو آفاق تبدو بعيدة، أودّ، أوّلاً، أن أسلّط الضوء على بعض البديهيّات التي تشكّل نكهتنا في مواقعنا (فروعنا، رعايانا)، لنرجو أن نتطلّع إلى ما هو، ظاهريًّا، أبعد من الموقع. وهذا سأحصره بنقاط ثلاث: 1) محبّتنا لله؛ 2) محبّتنا للإخوة؛ 3) الشهادة.
1- محبّتنا لله
أمور كثيرة، تضربنا، تدفعنا إلى التذكير بأن ليس من خدمة تكون صحيحة إن لم يحرّكها أن نحبّ الله أوّلاً، أي أن يحبّ كلٌّ منّا الله أوّلاً. لنضع نصب أعيننا دعوة المسيح إلى أن نحبّه أكثر من أيّ شخص كان، أو شيء كان، لنضعها مثالاً يجمع إلى ذاته كلّ الآيات الأخرى التي تحاكيه. ولا أزيد على هذه الدعوة إن قبلتُ أن يستوقفني، بتخصيص، كلام آخر للربّ، أي قوله: "مَنْ يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل، يخلّصها". فهذه، تفسيرًا لدعوة الحبّ المذكورة، تقول، بوضوح جليّ، إنّنا لا نقدر على فعل أيّ شيء، في كنيسة الله، إن لم نبذل أنفسنا حبًّا من أجل شخص الكلمة الذي أحبّنا. "من أجلي"، يقول الربّ، قبل "من أجل الإنجيل"، أي الكرازة بالبشرى السارّة. حبّنا لله هو بابنا إلى الخدمة الصحيحة، أيّ خدمة. ويعنيني أن نبقى نعرف أنّ هذه المحبّة تفترض إيمانًا حارًّا بأنّ الله، هنا في وسطنا، لا يتركنا، أيًّا كانت حالنا، إن مزدهرةً أو عاريةً أو محطَّمة. وهل مات ابن الله إلاّ ليقول لنا، بفصاحة لا تعلوها فصاحة، إنّه معنا في غير وضع، ولا سيّما حينما نكون مصلوبين على جراح الإهانة والذلّ والإبعاد؟ ليس لنا، في الحياة الكنسيّة، أمر يعزّينا، ويشدّدنا، ويحثّنا على مزيد من الصبر والعمل الدؤوب، سوى أن نخصّ الله بثمرة ودّنا. وهذا، الذي يهبنا عينين ثاقبتين قادرتين على أن تنظرا بثقة إلى آفاق تخصّنا، يجب أن يبدو لا سيّما في فسحات تأمّل في كلمة الله الصالحة، وصلاة موصولة، وأسلوب حياة وضيعة، واعترافات شخصيّة يوميّة، وتوبة صادقة. هذه، وما إليها، هي التي تعطينا أن ندلّ على أنّ الله عندنا أهمّ من حياتنا وأوقاتنا وكلّ ما يشغلنا في الأرض. من وجه الله، إنّما نحن نأتي. هذه هي الحركة الوحيدة التي تقيمنا في خطّ مستقيم. نحن لا نأتي من أيّ وجه آخر، مهما سما. بلى، يمكن أن تذكّرنا الوجوه الطيّبة بالله، وتردّنا إليه. لكن، إن وُجدت هذه الوجوه أو فرضًا غابت، يبقى لنا نصيب راهن أنّ الله حاضر، ليذكّرنا بنفسه، ويردّنا إليه. وإذا علّيتُ الصلاة هنا، فأعرف، ويعرف كثيرون غيري، أن ليس مثلها يدلّ على إيماننا بفعل النعمة. ليس العلم، أيّ علم، وليس العمل، أيّ عمل، هو ما يُحدث التجديد في الكون وحده. هذا، فيما نعمل ونعلّم، تتمّه نعمة الله التي شأننا أن نمتهن استمطارها علينا وعلى الكنيسة كلّها. وحسبي أنّ ما اقوله هنا أنقله نقلاً. فعندما التزمنا الحركة، أذكر أنّ الإخوة المسؤولين اعتنوا بأن يربطونا بالله أوّلاً. لم يغرّهم أن يُبدوا جمالاتٍ كنّا نراها فيهم، ليشجّعونا على أن نفعل. ولكنّهم، مخلصين للحقّ عالمين بأصوله واعين أنّ له المجد، قالوا لنا، في تعليمهم وعملهم، إنّ الله هو الأوّل والكلّ في آنٍ.
2- محبّتنا للإخوة
أمّا أسمى انطلاقة إلى خدمة العالم كلّه، فأن نحبب بعضنا بعضًا. هذا كان السبيل الذي وضعه الربّ، ليدرك العالم أنّ مَنْ تبعوه هم تلاميذه حقًّا. وإن قلتُ: محبّتنا للإخوة، فأوافق تراثنا الذي لم يجعل لنا، نحن شعب الله، فوق هذه الصفة الحيّة (إخوة) دلالةً على أنّنا، إخوةً ليسوع، أبناءُ آبٍ واحد. هذا، في شكله وجوهره، يبيّن أنّ "الأخوّة" نعمة. فقبل أن أتى الربّ إلينا، لم نكن شيئًا. أتى، ورآنا غرباء عن رعيّة أبيه، وشلح علينا رداء البنوّة، هكذا من دون أن يستوقفه إن كنّا نستحقّ أو لا نستحقّ. وكنّا لا نستحقّ، طبعًا. وكان يعرف أنّنا لا نستحقّ، وعلى ذلك فعل ما فعله. لماذا أستعيد ما فعله الله لنا في سياق كلام على المحبّة الأخويّة؟ جوابي هنا: لأنّ الله إيقونة حياتنا. فإن آمنّا حقًّا بأنّه شلح علينا رداء البنوّة، فيعني أنّنا مسؤولون عن خدمة ما فعله لنا في أزمنة ربّما لا يدرك أهلها جميعًا خير ما فعله من أجل خلاص العالم. انطلاقي، إذًا، آخذه من فعل الله الخلاصيّ. واستنتاجي، إذًا، كلّ إنسان قيمة عظمى في جسد المسيح الحيّ.
كلّنا نعرف أنّ الربّ جعل وصيّة المحبّة الأخويّة توازي محبّتنا لله. هذا نقوله ونعلّمه في غير وقت. ولكنّنا، ملزمين بطاعة الوصيّة، لا يوافقنا أن نميّز، لا سيّما في جماعاتنا التي نحيا فيها، بين وجه وآخر. إن كان الله لم يفعل، فيجب ألاّ نفعل. كلّنا نعتقد بخطر أعداء الإيمان على حياة الجماعة. ولكن، ليس كلّنا يعتقد بخطر أن تضمّ الجماعات أشخاصًا يستبعدون، بصداقات يقيمونها، إخوةً لا يصنّفونهم من ضمن أصدقائهم. لِمَ؟ ربّما يكونون لا ينسجمون معهم فكريًّا. لِمَ؟ ربّما يرونهم يعرجون بين الجانبين. لِمَ؟ يمكن أن نضع مئة جواب وجواب آخر. ولكنّ الحقّ يلزمنا أن نحبّ الكلّ أيًّا كانوا وكان فكرهم وكان انسجامنا معهم أو عدم انسجامنا. هذا، فحسب، قوّة وحدتنا. يقول ديونيسيوس الأريوباغيّ: "المحبّة قوّة موحِّدة". ولا أضيف إلى قوله ممّا عندي إن قلت هي "القوّة الموحِّدة". وإذًا، الأمر، الذي يجب أن نسعى إلى بقائه أبدًا في حياتنا الجماعيّة، إنّما أن نحبّ من دون تمييز. ما من جماعة في الأرض كلّ أعضائها أقوياء. في العالم، هناك سبل يلتقي الناس، بموجبها، بعضهم مع بعض. في الحياة الكنسيّة، ثمّة سبيل واحد، وهو أن نحبّ الكلّ حتّى مَنْ كان خسيسًا. لقد ذكرت، في مطلع هذه الفقرة، قول الربّ عن أنّنا إن أحببنا بعضنا بعضًا يعرف العالم أنّنا تلاميذه. لم يقل الربّ إن كنتم متضلّعين من علم اللاهوت، لم يقل إن كانت أفكاركم مضيئة، لم يقل إن كانت أنشطتكم عديدة وباهرة، لم يقل سوى إن أحببتم. فالمحبّة، المحبّة، تفتح باب الكنيسة على مصراعيه، وتخرج بثقة، وتُمسك بيدها كلَّ مَنْ يستحلون جمالها، وتُدخلهم بيت الله أبناء أحبّاء، أبناء كما لو أنّهم ولدوا منذ قديم الأيّام.
منذ أيّام، قرأتُ في كتاب أنّ اللفظة العبريّة "حِسِدْ" التي تعني "الإخلاص" في العربيّة، تعبّر عن أمرين يلازم أحدهما الآخر ملازمة تامّة، أي الوفاء والرأفة. فأن نحبّ بعضنا بعضًا، يعني أن يكون بعضنا وفيًّا لبعضنا الآخر (في الفرح وفي الحزن وفي غير حال، أي شركاء في كلّ شيء)، ورؤوفًا به حيث تقتضي الرأفة (ومتى لا تقتضي؟). أن نحبّ، يعني أنّنا قرّرنا أنّ هذه الجماعة، التي تضمّنا، هي هي، وليس سواها، دربُنا إلى الله. هي هي، أي كلّ مَنْ فيها.
3- الشهادة
إذا حملنا في عقولنا وقلوبنا ما قلناه في النقطتين الأولى والثانية، فالكلام على الشهادة يعبّد، من دون جهد، دربًا لذاته.
أيضًا، قلنا في انطلاقة الحركة إنّ كلَّ إنسانٍ قصدُنا. وهذا حكمُهُ، في أقوالنا ومسالكنا، أن نحبب الله والإخوة. لا أحد يقدر على أن يحبب الذين هم خارج الجماعة، كرهًا أو إهمالاً أو عادةً، إن لم يحبب أهل بيته أوّلاً. لقد قلت ما قلته عن محبّة الله والإخوة، وأودّ، الآن، أن أركّز، ولو بسرعة، على كون الجماعة الشاهدة إيقونتُها الدائمة "الخدمةُ الإلهيّة" التي تجمعها، وتوحّدها. لا أريد، هنا، أن أستعرض وجوه الخدمة كلّها. لكنّي سأقطف من بستانها الشهيّ أمرين رئيسين. أوّلهما الكلمة الإلهيّة وتوزيعها. وثانيهما مناولة القرابين المقدّسة. وحسبي أنّ شهادتنا يحكمها هذان الأمران دائمًا، أو هذا ما يجب. لا نستطيع أن ندعو الناس إلى برّ الالتزام (وأقصد بالناس، هنا، الإخوة الذين يحيون في رعايانا أوّلاً) من دون أن ندخل قلوبهم من طريق آذانهم وعيونهم. هذا كان أبدًا إطار الخدمة الأوّل. وهذا يفترض جهدًا موصولاً في غير حال.
من الضروريّ ان أذكر، هنا، أنّنا، في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، لم نقل، يومًا، إنّ إطار المعرفة الوحيد هو، عندنا، اجتماع الفرق. لكنّ هذا يبدو أنّه أخذ يفرض ذاته علينا هنا وهناك. وربّما أزمتنا، إذا دخلنا اجتماع بعض فرقنا، تأخذ منحى أخطر بكثير. فثمّة فرق عديدة تفتقر إلى مَنْ يعلّم أعضاءها أصول التعليم القويم. هذا نعرفه من بعض لقاءات عامّة. نعرفه من أسئلة بعض الإخوة ومن مداخلات يلقونها... ما تسمعه أحيانًا، صدمة!
معظم الناس لا يقرأون شيئًا، هذا يعرفه الكثيرون، ويردّده كثيرون. لكن، هل يليق بأهل خدمة الرسالة أن يتشبّهوا بكسل العالم وإصراره على الغباء؟ إن فعلوا، فأنّى لهم أن يخدموا الرسالة المخلِّصة؟ أنّى لهم أن يشهدوا "لوحدانيّة الإيمان ومعرفة ابن الله"؟
الأمر الرائع، الذي قامت عليه الحركة، أنّ فرقها كانت مختبر "ولادات جديدة"، أي بكلام واحد: مختبر مصالحة المعموديّة. هذا الفتى، الذي يدخل على اجتماع الفرقة اليوم، كان الإخوة يرونه رسول الغد. يحوطون به. يصغون إليه. يكشفون له أنّهم له. يزورونه. يستقبلونه. يصلّون له. ويعينونه في كلّ ما يخدم طموح الغد. ويضعون لا سيّما بين يديه كمًّا من الكتب، كتابًا تلو كتاب. فهذا يجب أن يعرف، ليشهد في الجماعة، وفي نطاق الرعيّة، وأينما حلّ أو نزل.
كيف نتعامل مع الذي يأتي إلينا جديدًا، هذا أمر يدلّ على أنّ البشارة أمر يقلقنا فعلاً. لا أريد أن أطيل هنا. يكفيني أن نتوافق على أنّ القلق، الذي أتيت على ذكره الآن، يستحقّ أن نهبه حياتنا كلّها. يجب أن يعرف الناس الله أبا ربّنا يسوع المسيح. يجب أن يقلقنا أن يعرفوه جميعًا. يجب أن يعرفه ابني وأخي وجاري وزميلي وصديقي وعدوّي وكلّ مَنْ وضعه الربّ على دروبي. هذا أمر، إن خدمته، يبيّن وعيي أنّني قد فهمت، حقًّا، أنّني حبيب الله.
إلى معرفة الكلمة وخدمتها، يبقى من الإيقونة المذكورة مناولة القرابين. ولأقل توًّا ما أريده هنا. أريد خدمة الفقراء. كلّ ما يمكن أن يتداخل في عقولنا الآن من أمور تفيد خدمة البشارة، هي، عندي، في ما يشغلني وضع هذه السطور، لأسباب أجهلها، عاديّة أمام عظمة خدمة الفقراء. في الخدمة الإلهيّة، نحن نأكل. وهذا يعني، أو يجب أن يعني لنا، أنّ كلّ خدمة، أجل كلّ خدمة، تطلب إطعامًا. ما من خدمة بشارة تامّة تقوم على أنقاض إطعام الفقراء وخدمة الفقراء وخلاص الفقراء. وإن كان ثمّة فارق ما بين خدمة الكلمة وخدمة الفقراء، فهو أنّنا، في خدمة الكلمة، نساهم في أن يتصوّر الربّ لِمَنْ يقبلون تعليمه. وأمّا الفقراء، متى خدمناهم، فهم مَنْ يصوّرون لنا وجه الربّ الحيّ القائم فيهم. كلّ فقير في الأرض، ولا سيّما المهدّد حقًّا، المنبوذ فعلاً، الملقى كلّيًّا خارج حدود النظر، هو مطرح رحب للربّ. وتبيّن الخبرات الحيّة، التي نتلقّطها في بعض الرعايا، أنّ هذه الخدمة قادرة، أحيانًا بسهولة كبيرة، على أن تجمع حولها أشخاصًا ليسوا، ظاهريًّا، معنا. هل أريد أنّ هذه الخدمة هي التي تكشف لهم صدق شهادتنا؟ بكلّ تأكيد. فهناك أناس يجرحهم جرح الفقير، ويفرحهم أن يروا أناسًا يسعون إلى تضميد جراحه. وترى فرحهم يسوقهم إلى أن يشاركوا، عبر عطاءات كريمة، في خدمةٍ فتحت لهم قلوبهم وأيديهم.
إذًا، الفقير الذي، إن بشّرناه بعمل المحبّة، يبشّرنا بإهدائنا وجه إلهنا الذي وحّد ذاته به.
إلى أنطاكية
هذا، مقبولاً، يسمح لنا بأن نجترئ على أن ننظر إلى أيّ أفق نخاله بعيدًا. وعندي هنا صعيدان، الصعيد الحركيّ العامّ والصعيد الكنسيّ العامّ.
الصعيد الحركيّ العامّ
ما قلناه عن حياتنا في فروعنا ورعايانا، هو النور الذي يجب أن نهتدي به بعضنا إلى بعض، أينما وُجدنا. فنحن، أعطتنا الحركة هذه الهبة النادرة: أن نرى كلّ إنسان أخانا، أن نرى أنفسنا كلّنا "واحدًا في المسيح يسوع". هذه الوحدة، التي دفع ربّنا دمه كُرمى لها، كانت عنوانًا كبيرًا من عناوين انطلاقة الحركة وامتدادها. هذا من سِحر الروح القدس الربّ المحيي.
لا بأس إن اعترفت! أحمل قلمي، وقلبي مشغول بأن نعي جميعنا، دومًا، أنّ الله جعلنا واحدًا. أحمل قلمي، وقلبي يعتصره ألم شديد. لِمَ بعضٌ لا يريدوننا واحدًا؟ أسأل. وأعرف، ويعرف غيري أكثر منّي، أنّ الله، الذي وعدنا بأنّنا في العالم سيكون لنا ضيق، يريدنا أن نواجه كلّ ضيق بمحبّته ومحبّة بعضنا بعضًا ومحبّة مَنْ يسبّب الضيق، لربّما يرجع إلى وعيه. هذا لا تستنزله الكبرياء كلماتٍ متسرّعةً غريبةً عمّا تتضمّنه. هذا شأن إله حيّ أرادنا أن نبقى، على الصليب، قادرين على استدرار المغفرة وخدمة الثبات في الحقّ، "لئلاّ يفنى إيمان أحد".
أمّا وحدتنا، فهي نحن أنفسنا. كلّ ما تسلّمناه إنّما يدلّ علينا. الالتزام الحركيّ ليس جزرًا متباعدة نقبل منها ما نقبل، ونهمل ما لا قدرة لنا على تنفيذه، ونرفض ما يُراد لنا أن نرفضه. الحركة، أو الالتزام الحركيّ، كلٌّ متكامل. وعندي، نحن مطالبون اليوم، ربّما أكثر من أيّ يوم مضى، أن نُظهر أنّنا نستحقّ ما سلّمنا إيّاه إخوتنا الأوائل، ولا سيّما وحدتنا. مَنْ تعبوا من أجل أن يكون شباب أنطاكية واحدًا، زوّدهم روح الله القدّوس أن يحقّقوا أمرًا، على مستوى شباب كنيستنا، جِدّتُهُ باهرة. ولأنّ الوحدة تراث، نرى أنّ وحدتنا باتت من تراث كنيستنا. ولن نرضى أن يتجرّأ أحد على نقض التراث! إذًا، من صميم إخلاصنا لإنجيل الربّ الحيّ أن تبقى عيوننا (وأيدينا وقلوبنا وكلّ ما ينبض فينا) قادرة على أن تمتدّ إلى فرح الإخوة وحزن الإخوة وضيق الإخوة وأيّ أمر يحتاج إليه الإخوة، أينما وجدوا. نحن إليهم، لأنّنا إلى الله الذي قرّر لنا أن نكون إليهم. ولا أقول هذا على مستوى التزامنا الأمانة العامّة فحسب، وهي وجه من وجوه وحدتنا، بل أقوله، أيضًا، على غير مستوى. كلّ تجمّع حركيّ في مدانا الأنطاكيّ، نحن مسؤولون عن أن نبذل من أجل استمرار قيامه كلّ "عتيق وجديد". يحتاج إلى إرشاد، إلى كتب، إلى مال، إلى وجوه، ودائمًا إلى دعاء، وإلى أيّ شيء آخر، نحن يجب أن نكون كفيلين بتحقيقه. فرحنا أن يُحبَّ الربّ، وينتصر الربّ، ويتمجّد الربّ، يفرض علينا أن نعطي أنفسنا من دون أيّ شرط.
يبقى لي، هنا، أن أقول إنّ ما نراه لا سيّما في كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس من أنّ المسيحيّين كانوا يضيفون بعضهم بعضًا في بيوتهم، يجب أن نجعل له مكانًا رحبًا في حياتنا الحركيّة، الآن وليس غدًا. يجب أن تترجم الأمانة العامّة ما قرّرته، في هذا الشأن، في اجتماع لها قريب. أن يجتمع بعض أشخاص من فرع من فروعنا الممدودة في المدى الأنطاكيّ، وينتقلوا إلى بيت أحد الإخوة المعتبرين، يقضون معه نهارًا (أو يومًا أو أيّامًا)، أمر لا يفيدنا في سياق تبادل الخبرات فحسب، بل يقول، ببلاغة، إنّنا، أيضًا، نحبّ أن نتمثّل بكنيسة العهد الجديد تمثّلاً كلّيًّا.
الصعيد الكنسيّ العامّ
هناك أفكار عديدة يمكنها أن تدعم عجلة كنيستنا في تقدّمها إلى الأمام. ولكنّ هذا يفترض أن يبقى كلّ منّا أمينًا للحقّ، لصيقًا به وبشعبه، خادمًا لمجده. لن أطوف بكلّ ما يمكن قوله في هذا السياق الذي الكلام عليه ربّما لا ينتهي. سأكتفي بإيراد أمرين أراهما ملحّين اليوم كثيرًا:
1- لقد انطوى زمن الفكر الغريب الذي كان أربابه يعتقدون بأنّ التكريس شأن بعض في الجماعة. هذا لا يعيبنا تكراره. عادت اللفظة بمعناه الرحب، أي تخصيص الحياة لله، بعيدةً عن الحصر بُعد الأرض عن الشمس. وباعتقادي، حركتنا، اليوم، قادرة على أن تنفض عنها كلّ خبرة سيّئة أنتجها الغرق في "تمييز نوع الألبسة". ليفهم القارئ! فالخطأ لا يبنى عليه. أسمع، وربّما جميعكم سمعتم، أنّ بعضًا من الإخوة، بعد تكرّسهم (وأقصد، هنا، في الكهنوت)، يتغيّرون. لست، هنا، بوارد إضاعة وقتي وقتكم بالتفتيش عن أسباب هذا التغيير (الذي أذكره من دون أن أتبنّاه صفةً). فالحركة، وإن كانت قائمة في أهلها، أعلى من الجميع. رؤية هي. والرؤية، إن لم تدخلك، لا يمكنك أن تدخلها. هذا لا يغيّره أن تقضي في صفوفها زمانًا قصيرًا أو طويلاً. فالباب، مفتوحًا، قلنا مرارًا، يمكن أن يدخله مَنْ يشاء. الذين ينتقدون تيّارنا النهضويّ بِمَنْ تركوه، بحياة مَنْ تركوه، بحياةِ بعضِ مَنْ يتمشّون في ساحاته، هم هواة انتقاد لا أكثر ولا أقلّ. ويجب أن نبعد عن عقولنا أن يشكّلها الخوف من "الألسنة المسنونة". لقد قالت الحركة، وما زالت تقول، إنّ الأخطاء، التي تنبت في وسط الجماعة، لا ينفعنا أن نشير إليها بإصبعنا (أو بلساننا!)، بل أن نساهم في حلّها، إن أمكن. وإذًا، يجب أن نبقى ندعو أنفسنا إلى تخصيص حياتنا لله. هذا أمر أعظم من الأخطاء، كثرت أو قلّت. قلتُ لا أريد أن أفتّش عن الأسباب. لكنّني متيقّن، تيقّنًا تامًّا، بأنّنا، أمام ما نذكره هنا، لا نخلو من مسؤوليّة. لا نقدر، موضوعيًّا، على أن نحرّر أنفسنا، كلّيًّا، من أخطاء ظهرت في سوانا. هل من حلّ؟ أجل. يجب أن نتعلّم من الأخطاء التي مرّت. وهذا موقعه الدائم اللغة التي نطلقها، وتاليًا القربى من الإخوة. ويبقى لنا أن نبقى نعيد التركيز على أهمّيّة تخصيص الحياة لله. هذا لا يحمينا ورؤيتنا فحسب، بل، أيضًا، يوافق ما أراده الروح يوم أحيانا بوعي النهضة.
2- أمّا الأمر الملحّ الآخر، فهو أن نبقى نسعى، جماعاتٍ وأفرادًا، على بثّ حبّ أنطاكية، أي حبّ أن نبقى فيها، ونموت فيها. الأمور المخيفة، التي تدفعنا إلى الرحيل، في الداخل والخارج، كثيرة، ما من أدنى شكّ. والإغراءات كثيرة أيضًا. ولكنّنا، مسؤولين عن بقاء الشهادة في هذه الأرض، لا نقدر على أن نبدل حبّنا لأنطاكية بحبّ آخر. إن كنّا ملك الله وجماعته، فيعني أنّنا لا نملك أنفسنا، ولسنا بأسيادٍ عليها. هذا قاله، حرفيًّا، قدّيس أنطاكيّ ما زال صوته يدوّي: "المسيحيّ لا يملك نفسه، وليس بسيّدها" (رسالة القدّيس أغناطيوس إلى بوليكربس 7: 3). لن يأتي أحد من خارج، ليشهد للربّ هنا، أو هذا ما أحسبه. وُلدنا هنا، هذا يجب أن نراه تكليفًا إلهيًّا. لقد تكلّمت الحركة كثيرًا على أهمّيّة "التزام شؤون الأرض". هذا إرثنا. ولكنّنا لا نقدر، أيضًا، على أن نختزل الحثّ على هذا الحبّ بالكلام عليه فحسب. لقد مرّ على انطلاقة الحركة ما يقارب السبعين سنة. آن الأوان، ليضع لا سيّما شيوخها كلّ خبرة وإمكانيّة في خدمة هذا الحبّ، أي ترجمته عمليًّا. هل أقصد أن يقول حركيّون، لهم قدرة ماليّة مثلاً، إنّ لكم ما لي، فافعلوا به ما ترونه يخدم بقاءنا هنا؟ أفضّل أن يجيب عن هذا السؤال أشخاص يرون أنفسهم فيه. فقط، أقول إنّنا، في غير حال، مسؤولون عن أن نبقى هنا. إن لم نستطع اليوم إلاّ أن نتكلّم على أهمّيّة البقاء، فأرجو أن نؤسِّس للغة جديدة، في فرقنا خصوصًا، تعطينا، في أيّام عتيدة، نعمة أن نقرن القول بالفعل.
خاتمة
ليس لنا من أفق، قبل آفاق، إن لم نكن نحن أنفسنا، أي لم نوافق، دائمًا، حلم الجدّة الذي أيقظنا إلى يوم جديد. فالآفاق الرعائيّة الأنطاكيّة هي، في الأخير، شخص (أو أشخاص)، شخص يقول، باتّكال كلّيّ على نعمة الله، إنّي لله اليوم وغدًا.