الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

دعوة أمام بيت الجباية

            "ومضى يسوع فرأى في طريقه رجلاً جالسًا في بيت الجباية يقال له متّى، فقال له: "اتبعني!"، فقام وتبعه. وبينما هو على الطعام في البيت، جاء كثير من العشّارين والخاطئين، فجالسوا يسوع وتلاميذه. فلمّا رأى الفرّيسيّون ذلك، قالوا لتلاميذه: "لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخاطئين؟". فسمع يسوع كلامهم فقال: "ليس الأصحّاء بمحتاجين إلى طبيب، بل المرضى. فهلاّ تعلمون هذه الآية: "إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة"، فإنّي ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخاطئين" (متّى 9: 9- 13، قابل مع: مرقس 2: 14- 17؛ ولوقا 5: 27- 32).

            يلفت القارئ المدقّق أنّ الرسول متّى الإنجيليّ، في تدوينه خبر دعوته، لم يُخفِ أنّه كان "جالسًا في بيت الجباية". فالربّ كان مجتازًا من أمام مقرّ عمله، لمّا "رآه"، وطلب منه أن يتبعه.

            لا نعلم، تحديدًا، إن كان متّى، قَبْلَ هذا اللقاء المقصود، قد سمع شيئًا عن يسوع، أو عن تعليمه وأفعاله. ربّما يكون قد سمع. فشهرة يسوع كانت منتشرة في عرض البلاد وطولها. ولكن، ما هو مؤكّد، في الخبر المدوّن، أنّ الرجل، متّى، لم يقدر على أن يقاوم حضور الربّ الخلاصيّ ودعوته المذهلة، وأنّه، "بنعمة دافعٍ غير منظور"، تبعه فورًا، ومن دون أن يتلفّظ ببنت شفة. ومتّى هو واحد من عشّارين كثيرين كانوا يُحسبون من المتآمرين على شعبهم، لأنّهم كانوا يتعاملون مع الرومان المستعمرين في ذلك الحين. ومن مقتضيات عمل العشّارين أنّهم كانوا يفرضون الضرائب على جميع الناس من دون تمييز، ويجمعونها، في أحيان كثيرة، بالقوّة، وبطرائق غير لائقة، أو غير شرعيّة. ولذلك كان شعبهم يعتبرهم لصوصًا وخونة، وينبذهم، ويكرههم (لوقا 15: 1 و2، 19: 7). وما كان للذين يعملون في جباية الأعشار من أصدقاء يُذكرون، اللَّهمّ إلاّ إذا كانوا هم أيضًا يشاركون في العمل عينه، أو كانوا من الخاطئين (متّى 9: 10).

            قلتُ، يلفت قارئ هذا الخبر أنّ متّى لم يُخفِ أنّه كان واحدًا من العشّارين لمّا رآه يسوع، وطلب منه أن يتبعه. وهو كتب إنجيله بعد قبوله دعوته بوقت طويل، ربّما يزيد على الخمسين سنة. وقد تاب إثرها توًّا، وترك مهنته القديمة، والتصق بيسوع وجماعته. والمرء، إذا تاب وغيّر حياته وازدرى كلّ ما هو فانٍ، من المنطقيّ أن يخجل بما كان يعمله قَبْلاً (رومية 6: 20 و21). متّى لم يخجل! واعترف بأنّ يسوع التقى به بينما كان "جالسًا في بيت الجباية". فماذا أراد من اعترافه هذا؟

            ما من شكّ في أنّ الرسول أراد أن يبرز أنّ مَن دعاه إلى تبعيّته له القدرة الكلّيّة على تجديد الناس، مهما كانت عيوبهم وخطاياهم كبيرة أو شهيرة. فهو، الداعي، كما فهمه متّى، وأرادنا أن نفهمه نحن أيضًا، لا يهمّه ما يكون الإنسان عليه قَبْلَ دعوته، ولا يحابي الوجوه. لكنّه يطلب كلّ إنسان، ويعنيه وفق ما سيكونه، أو سيصيره. ومتّى أغرته دعوة يسوع، لأنّها حرّة، ولا ينقصها شيء من المحبّة. أغراه، وهو المنبوذ والمكروه، أن يحبّه أحد لا يجاريه في مهنته، ولا تربطه به صداقة. فترك عمله، وجرى وراء مَن رآه، وأحبّه. وهل ثمّة من أمر يقدر على التأثير فينا نظير المحبّة المجّانيّة؟ وهل ثمّة من سبب أعلى من المحبّة يدفع الإنسان إلى الطاعة، وتغيير حياته تغييرًا كلّيًّا؟

            كان متّى يعرف أنّ الإنسان لا يرى، عمومًا، إلاّ الذين يعتقد أنّهم موجودون في عيني غيرهم، أو عيون الذين، برأيه، يستحقّون أن يُرَوْا. أمّا الناس العاديّون أو الخطأة الذين ينبذهم الآخرون ويحتقرونهم، فلا أحد يعتبر وجودهم، أو يراهم. يسوع اعتبره. رآه. اكتشف متّى أنّ مَن اعتبره، ورآه، يختلف عن الناس جميعًا. هل سأل نفسه إن كان هو المسيح الذي تنتظره جميع الأجيال؟ ربّما سأل. وربّما جال هذا كلّه في رأسه. هو لم يكتب كلّ ما فكّر فيه. لكنّه كتب ما يبيّن حقّ دعوة الله الخلاصيّة، وما تفترضه من طاعة فوريّة. أراد أن يبرز، لقرّائه وللناس جميعًا، أنّ يسوع يقدر على تجديدهم، ويستحقّ أن يطاع فورًا.

            ثمّ بعد هذا، يفاجئنا يسوع بوجوده في بيت متّى، وعلى مائدته (قابل مع: لوقا 5: 29)، وأنّ جلساءه كانوا أصدقاء متّى، العشّارين والخاطئين، وكانوا كثيرين. وهذا إنّما يدلّنا على شيئين، الأوّل أنّ متّى، بعد أن قَبِلَ دعوة يسوع، أراد أن يدخله بيته، أي حياته (أنظر: نشيد الأناشيد 3: 4). أن نقبل دعوة يسوع، معناه، أوّلاً، أن نسمح له بأن يدخل حياتنا، لنعرفه عن كثب، ويجدّدنا كلّيًّا. فهذه الدعوة لا يقبل حقّها أن تضاف إلى الحياة، بل تطلب، ممَّن يتجاوب معها، أن يقدّم حياته كلّها. هذا ما ترمز إليه مائدة متّى الممدودة. فهي تدلّ على شركة الحياة الجديدة التي تربط بين يسوع وتلميذه الجديد. ومعناه، أيضًا، أن نخبر عنه أهل بيتنا وأصدقاءنا جميعًا. فحقّ الدعوة يفترض قبولها أن نشهد للذي دعانا ولـ"محبّته المجنونة"، أي أن نعترف بعظمته، وبما نكنّه له من شعور، أمام العالم كلّه. والشيء الثاني أنّ يسوع كان يعرف أنّ دخوله بيت متّى، وجلوسه مع أصدقائه على مائدة واحدة، سيلقى انتقادًا لاذعًا ممَّن كانوا يحسبون أنفسهم أصحّاء، أو أبرارًا. ولكنّه، على ذلك، دخل. لقد دخل، لأنّه أراد أن يكشف أنّه حرّ من أفكار اليهود المتحجّرة وتعقيداتهم الغريبة. فهو لا يعيّره أن يضمّه مع المنبوذين في الأرض منزل واحد، ولا أن يأكل معهم. أي لا يعيّره، أو ينجّسه، أن يعاشرهم، ولا أن يبيّن لهم كلّ محبّة (متّى 11: 19؛ لوقا 7: 34). فهو إنّما أتى، أوّلاً، من أجل خلاص هؤلاء. وإن كان متّى هو صاحب البيت، وقد بيّن طاعته بقبوله الدعوة، من دون تردّد أو تلكّؤ، فيستحقّ أن يأتي يسوع إليه وإلى مَن شاء من أصدقائه.

            لقد فهم متّى، منذ لحظة لقائه بيسوع، ما لم يفهمه الكثيرون، وهو أنّ يسوع يحبّه شخصيًّا، فترك كلّ شيء، وتبعه. وأراد أن يستزيد حبًّا، فأعدّ له مائدة، ودعاه إلى بيته. ودعا أصدقاءه الكثيرين ليكشف سبب اهتدائه، ويهيّئ لهم، إن أرادوا، فرصة تجديد حياتهم وإنقاذ أنفسهم من لوثة الخطيئة المرعبة. غير أنّ مجريات اللقاء، الذي تمّ في بيته، جعلته أيضًا يفهم، بعمق أكبر، ما خبره شخصيًّا، وهو أنّ يسوع إنّما دعاه لأنّه يحبّ الناس جميعًا، وأنّ الناس لا يصحّون حقًّا إلاّ إذا قبلوا ملازمته وزملته. وهذا سمعه منه، حرفيًّا، في ردّه على الفرّيسيّين، الذين انتقدوا قبوله دخول بيته وجلوسه على مائدة واحدة مع العشّارين والخطأة، بقوله: "ليس الأصحّاء بمحتاجين إلى طبيب، بل المرضى. فهلاّ تعلمون معنى هذه الآية: "إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة"، فإنّي ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخاطئين (وزاد لوقا: "إلى التوبة")". أجل، فهم متّى ما معنى الدعوة التي تلقّاها. فهم أنّ شأن الإنسان أن يعرف أنّه خاطئ، ويحتاج إلى رحمة الله، وأنّ الذي دعاه هو، وحده، طبيب العالم وشافيه. وفهم، أيضًا، أنّ الله لا يرضى بأن نحبّه فحسب، بل يريد أيضًا أن نحبّ جميع الناس من دون تمييز، ونرحمهم، وأنّ هذه، عنده، هي الذبيحة المقبولة.

            هذه الدعوة، وما تحمله من معانٍ وعبر، ليست مثلها دعوة. هي فريدة، لأنّ الداعي فريد. وهي مفيدة، لأنّها تساعدنا على أن نكتشف أنّ يسوع يريدنا، رغم خطايانا، أن نكون كلّيًّا له ومعه. هذا لا يعني أنّه يريدنا أن نبقى على ما نحن عليه من عيوب، بل أن نقبله سيّدًا على حياتنا كلّها. ويسوع، إذا قبلناه سيّدًا، أي إذا تبنا إليه حقًّا وأطعناه كلّيًّا، يغفر لنا كلّ ذنب ارتكبناه، ويجدّدنا، ويقيمنا له شهودًا في العالم. لا يصعب على يسوع شيء. مَن قدر على أن يشفي متّى بنظرة (رآه) وكلمة (اتبعني)، قادر على فعل كلّ شيء. فقوّته ظاهرة، وهي تنتظر أن نوافقها برضًى وثقة. وما صار لمتّى يصير لنا، إن تمثّلنا بطاعته الفوريّة، وفضّلنا يسوع على كلّ ما في الوجود، وشهدنا، في العالم، لرحمته الغزيرة ومحبّته المنجّية.

شارك!
Exit mobile version