مِنْ أعلى الخطايا، إن جاز إعلاء خطيئة على أخرى، أن ترمي خطأك على غيرك. وهذه الخطيئة، ككلّ الخطايا، صعوبتها أنّها قادرة على أن تجرّ معها خطايا عديدة. فكلّ خطيئة حبلى. وَبِكْرُ كلِّ خطيئة هي أن تعلّي نفسك فوق الكلّ، أي ترى الخير كلّه فيك، وتعمى عن رؤيته في الآخرين. إنّه أن تلغي خير الله بفكرة، بكلمة، بغمزة عين، ببسمة ساخرة. فتلغي، جاهلاً أو عارفًا، من حياتك الله الذي أرادك أن تنتفع من وجوه إخوة هم معك في شركة حياة يجب أن تكون طاهرة.
الكلام على الخطايا يتعب النفس. والخطايا رفيقة عمرنا ما دمنا نحيا على هذه الفانية. إنّنا نلقاها في نفوسنا، ونلقاها أمامنا، وعلى دروب حياتنا. وإنّها تتعبنا، لنستريح إلى مَنْ قيل فيه "إنّه لم يرتكب خطيئة، ولم يوجد في فمه غشّ" (1بطرس 2: 22). ليس معنى هذا أنّ كره الخطايا هو الذي يقودنا، وحده، إلى الراحة. فإنّ دعوتنا الثابتة أن نسير في إثر مسيح الله. دعوتنا أن يجتذبنا كلامه الطاهر وحبّه المدهش. ولكن، أليس من السير في إثر المسيح أن تستقبح الخطيئة فيك وفي العالم؟ أليس منه أن تحسن الهروب منها، وأن تدعو، فيما تهرب، إلى الهروب منها؟ كلّ قضيّة الله أن نحبّه، ونزرع حبّه على دروب مجدبة.
من عمق المسيحيّة الإيمانُ بحرّيّة الإنسان. وهذه لا تمنع المسيحيّين من أن يسعوا إلى نشر طهر الله دائمًا. دعوتهم أن يفعلوا فيما يؤمنون بحرّيّة الآخرين. ولربّما خير ما تفترضه المسيحيّة أن ترى الناس على جمال قائم، أو جمال ممكن. لا يعني هذا أن تكذّب عينيك إذا ثبتت خطيئة أحدهم أمامك، بل أن ترى الخير، وتريده، في آن واحد. فالله أَمَرَنا أن نتمثّل به (متّى 5: 48). وهذا يفترض أن ترى الناس بعينَيْ مَنْ أرادك على مثاله. ليس مِنْ تفسير لرمي أثقالنا على غيرنا، سوى أنّنا نحيا على هامش أمره، سوى أنّنا نريد أن نبقى بشرًا خرجوا من الفردوس لكونهم أرادوا أن يكونوا آلهةً من دون الله. الحكم على الآخرين وإلصاق التهم بالآخرين تشويه لدعوة الله أن نكون آلهةً بنعمته وما تفترضه هذه الدعوة من طاعة لكلمته (مزمور 82: 6؛ يوحنّا 10: 34). وهذا عيب يشوّه مشروع الله الصادق. والله، الذي "يستحيل أن يكذب" (عبرانيّين 6: 18)، لا يمكن تشويه مشروعه. المرء يشوّه نفسه إن تهاون بأمر الله، أو سار بعكس هداه.
أن تعترف بالخير، وتريده للناس جميعًا الذين تحبّهم والذين لا يحبّونك، لهو الدليل القاطع على أنّك تؤمن بمجد الله وحده. وليس، في حسباني، من دليل أنجع من هذا الدليل. من حيث إنّ محكّ صدقنا، في علاقتنا بالله، هو علاقتنا بالآخرين. كيف ننظر إليهم؟ كيف نريدهم؟ كيف نفرح لفرحهم، ونحزن لحزنهم؟ وكيف نحتضنهم أمام الأمم؟ وكيف نبتغي، فعليًّا، خلاصهم؟ أمور هي التي تبيّن طبيعة علاقتنا بالله. أمّا مَنْ يتصرّف تصرّفًا يضادّ الله ومجده، فلا نجد معنى لتصرّفه سوى أنّه يبحث في إعلاء مجده الشخصيّ. وهذا، واقعيًّا، هو معنى الوثنيّة الكامل. كلّ وثنيّات الأرض حُكمها وحَكمها شهوات الإنسان نفسه. فإنّ مَنْ عبد صنمًا، في مسرى التاريخ، إنّما عبد نفسه، أي علّى شهواته وألّهها. وليس في تعليم الكنيسة من مكان لعبادة الذات مهما كانت درجة قداسة الناس الذين تدعونا إلى تكريمهم. العبادة، فيها، هي لله وحده. ومعنى العبادة، ببساطة كلّيّة، أن تقرّ بسيادة الله عليك دائمًا. ما من شكّ في أنّ طريق عبادة الله طويل وصعب، ويفترض تمرّسًا. ولكنّه يختصر بهذه القناعة البسيطة. وهذا، الذي يعلّمنا إيّاه الربّ نفسه، يهبك، في مسيرتك معه، أن تتوب عن خطاياك القاتلة. هو يهبك أن تفتح قلبك لكلّ مَنْ فتحه لك، أو أغلقه لك. حبّ الآخرين دائمًا، وإصلاح الذات دائمًا، هما، معًا، الدليل الثابت على الخير والعمل في سبيله، أي الدليل على اعترافنا بمجد الله وحده.
كلّنا يعرف أنّ ثمّة مَنْ يريد الآخرين كما هو يريدهم. لو أعطي لمنتقد غيره أن يرى مَنْ ينتقده في صفّه، لأسرع في التراجع عن موقفه، ولَقَبِل الآخر حبيبًا عظيمًا لا يشوبه أيّ عيب! مشكلة رفض الآخرين أنّها تبحث، في آخر المطاف، في إخضاعهم، ولو رغمًا منهم. وهذا هو تأليه الذات تحديدًا. والله، الذي لا يرغم أحدًا على أمر، هو واحد لا شريك له. كلّ استقامة الحياة مرتبطة بإيماننا بالإله الواحد الذي أوجدنا أحرارًا.
من المعروف أنّ ثمّة أشخاصًا ألّهوا بشرًا. وكلّ بشر خاطئ، ويزول كزهر الحقل. ما من بشريّ يستحقّ أن نؤلّهه البتّة. أن نحبّه، بلى. أن نقتدي بفضائله، بلى أيضًا. ولكن، أن نؤلّهه، فلا لا. لقد عرفنا بشرًا ألّهوا بشرًا، ورأينا بعضهم قد صدمتهم خطايا اكتشفوها في مَنْ كانوا يؤلّهونهم. الله، وحده، لا يصدمك صدمًا سلبيًّا. المسيحيّ، الذي دوره أن يريد الخير للآخرين ويصنعه للآخرين، هو مسيحيّ يعرف، بعمق، أنّ كلّ إنسان يحتاج إلى أن يُحَبّ. ما من أحد، في الدنيا، يصل إلى موقع يسمح له بأن يستغني عن غيره. هذا وعي، إن فات بعضنا، نبقى عليه، لئلاّ يفوتنا خلاصنا. فأن نحبّ الآخرين، لهو أن ندرك أنّهم تراب قابلون لأن يكونوا نورًا. والنور دعوة. حتّى الذين قدّسهم نور الله في أوان الرضا، كانوا يلتمسون النور بتوبة نصوح.
يبقى أن نبقى نريد الخير للآخرين دائمًا. فإن فعلنا، نكتب على صفحات تاريخنا قصّة محبّة الله بحروف من نوره.