ثمّة جدل كبير ومعقّد بين علماء التفسير حول ما تعنيه لفظة "جوهريّ" (epiousios) في هذه الطلبة. والواقع أنّ هذه اللفظة، التي استعملت في العهد الجديد، حصرًا، في الصلاة الربّيّة، يمكن أن تعني، في أصلها اليونانيّ، حسب اشتقاقاتها المتنوّعة: الخبز الضروريّ للعيش (خبزنا اليوميّ)، الخبز من أجل المستقبل، أو خبز الغد...، أو الخبز الجوهريّ. وهذا المعنى الأخير هو الذي تستعمله كنيستنا الأرثوذكسيّة، وتجده أكثر توافقًا وسياق الصلاة الربّيّة.
مع أنّ كلّ حصر لا يرى في هذه الطلبة سوى طلب الحاجات الأرضيّة هو ناقص، فإنّ طلبة الخبز الجوهريّ لا تهمل طلب حاجات الإنسان الضروريّة للحياة. وذلك بأنّ الله، الذي يحضّ المؤمنين على أن يطلبوا "أوّلاً ملكوت الله وبرّه" (متّى 6: 33)، يحمل أتباعه على أن يدركوا جوده وإحسانه هنا في حياتهم دائمًا، وأن ينتظروا منه كلّ شيء بثقةٍ لا تتزعزع. فإذا قال الربّ صلّوا: "خبزنا... أعطنا"، فهو يريد منهم أن يتوجّهوا إليه معترفين به إلهًا وسيّدًا على حياتهم، وأن يثقوا بفعله وخلاصه في زمانهم الحاضر.
يعلّمنا يسوع، في إنجيله، أن نتّكل على الله، وحده، في كلّ شيء (اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم...). أن نتّكل عليه في كلّ شيء، أو أن نسلّم حياتنا له، هو أن نستلمها منه. نقول "خبزنا... أعطنا"، والخبز هو من ضرورات هذه الحياة. هو، كما ترى التوراة، عطيّة من السماء وكرم من الله يتوّج عمل البشر. يسوع يريدنا، دائمًا، أن نطلب الخبز، في صلواتنا، من الله أبينا، لنتعلّم أن نكون أمامه كالأطفال الذين ينتظرون كلّ شيء منه (متّى 7: 9 وما يوازيها). يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ في شرحه هذه الطلبة: "إنّه من الأليق جدًّا بالقدّيسين أن يسعوا بكلّ جهد، ليحسبوا مستحقّين العطايا الروحيّة. ولكن من جهة أخرى ينبغي لنا أن نفهم أنّه حتّى إذا ما كانوا يطلبون مجرّد الخبز العاديّ، إلاّ أنّه لا لوم عليهم البتّة في ذلك إذا كانوا يسألونه من الله حسبما يدعوهم المخلّص أن يفعلوا هكذا، لأنّ هذا يليق بتقوى حياتهم". أن نطلب، إذًا، من الله خبز اليوم أمر يقينا من الاتّكال على ذواتنا حصرًا، أو أن "ننهك أنفسنا باهتمام اليوم التالي". فيسوع لا يريدنا أن نهتمّ بالغد أو بأيّ ملك أرضيّ، بل أن نؤمن بعناية الآب المطلقة (متّى 6: 25- 34)، بعنايته بنا "اليوم". وهذا ما يؤكّده، أيضًا، القدّيس كيرلّس بقوله: "فالربّ، إذ أوصاهم أن يسألوا من أجل الخبز، أي من أجل خبز يوم واحد، فهذا برهان واضح على أنّه لا يسمح لهم بامتلاك أيّ شيء، بل يطلب منهم أن يمارسوا الفقر اللائق بالقدّيسين". ويقول أيضًا: "إذًا، فلنسأله ونحن "ملقون كلّ همّنا عليه" (1بطرس 5: 7) ما يكفي لحياتنا، أي الطعام والكساء وكلّ ما يقوم بأود الحياة متجنّبين كلّ رغبة في الغنى. لأنّ ذلك يهدّد حياتنا بالدمار، وإن كانت هذه هي إرادتنا، فإنّ المسيح يقبلنا ويباركنا".
عناية الله الآب بنا حقًّا "اليوم" بيّنها يسوع بخاصّة في حادثة تكثير الخبز في البرّيّة (متّى 14: 14- 21)، الخبز الذي قدّمه أصلاً أناس من أجل غيرهم. فتكون، تاليًا، إرادة يسوع، في تعليمنا أن نطلب الخبز، هي أن نتحسّس جوع الآخرين وقلقهم، وأن نطعمهم من "خبزنا"، أن نسدّ جوع أخوتنا المنتشرين حولنا وفي العالم من عطايا الله. فهذه الطلبة لا تسمح للمسيحيّ بأن يعتقد أنّ الخبز، الذي يطلبه من الله، هو خبزه الشخصيّ فحسب، بل "خبزنا" أيضًا، أي خبزه وخبز أخوته في آنٍ. ومن المفيد جدًّا أن نذكر هنا ما كتبه أوليفيه كليمان في شرحه هذه الطلبة، إذ قال: إنّ "التقاسم يجب أن نمارسه، أوّلاً، ما بين إنسان وإنسان، عائلة وعائلة، ربّما في إطار رعايانا التي من المرغوب فيه أن تصير تقريبًا جماعات (شركويّة) رعويّة حقيقيّة. علينا أن نضع تصميمًا لذلك في محيطنا، أن نحبّذ الوصول إلى تحقيقه في مواقفنا المدنيّة، على صعيد الأمّة، في احترام الغريب، المهاجر واستقباله، لا لكي نتمثّله، بل بالمحافظة على ثقافته، إن رغب في ذلك. وعلى صعيد البشريّة التامّة، أكرر أيضًا ذلك. نستطيع أن نحلم، أن نقترح، أن نحدّد بدقّة نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا. نحن بحاجة إلى علماء اقتصاد صارمين وواقعيّين، ولكن قادرين أيضًا على أن يضعوا علمهم في خدمة الصلاة". ويتابع متوجّهًا إلى الله بقوله: "أعطنا، نحن جميع البشر، الخبز الضروريّ، وليكن أيضًا خبز الملكوت، خبز الحلم الأخويّ (المودّة الأخويّة) والجمال".
يرفعنا هذا القول الأخير إلى أن نرى، في طلبة "خبزنا الجوهريّ أعطنا اليوم"، معنى أعمق من طلب الحاجات الأرضيّة، لأنّ يسوع، الذي قال "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (متّى 4: 4)، يريدنا، "اليوم"، أن نطلب "الخبز الجوهريّ". وهذا، كما فهم الآباء عمومًا، يدلّ على كلمة الله التي يقرأها المؤمن في الكتاب المقدّس، ويجدها في تعليم الآباء القدّيسين وفي مقرّرات المجامع المسكونيّة، وعلى "الخبز النازل من السماء"، أي "يسوع الإله المخلّص الذي يقدّم لنا جسده ودمه في سرّ الشكر (المناولة)" (كما يقول أوريجانس وكبريانوس وغيرهما)، وعلى خبز الملكوت، خبز مائدة اليوم العظيم الآتي.
ثمّة مواقع عديدة، في العهد الجديد، يشبّه فيها الربّ ملكوت الله بمائدة (متّى 8: 11، 26: 29، مرقس 14: 25 ولوقا 22: 18؛ رؤيا 19: 9). وذلك بأنّه أراد أن ينشد أتباعه، أوّلاً، الحياة الأبديّة، وأن يعكسوا توقهم إليها في حياتهم اليوميّة، وأن يسمحوا للمحبّة بأن تغلبهم، ليسود الملكوت في هذا "العالم الحاضر الخدّاع"، وتحلو الحياة لمَن غلبه اليأس، ويرجو.
يريدنا يسوع، في هذه الطلبة، أن نحبّ ملكوت الله، نطلبه ونمتدّ إليه، لأنّه هو وحده الحقيقة الواقعيّة الذي نرى ومضاته في محبّة الله والناس، ولا سيّما أولئك الذين وحّد يسوع نفسه بهم، وجعلهم مرقاتنا إلى وجهه المنوَّر.