عندما تساءلتُ، مرّةً، على صفحات مجلّة النور: "هل الرجاء في أزمة؟" (5/ 1996)، استدعاني ملاك جبل لبنان، وقال لي: "إنّ شأننا، في ما نكتبه، أن نحثّ المؤمنين على أن يثبتوا في الرجاء".
نفعني، إلى الملاحظة، أنّ سيادته ما زال يقرأ "المجلّة". وحسبي أنّه يقرأ كلّ مَنْ يكتب فيها، أكان مقتدرًا أم آخر، بعيدًا من التواضع المصطَنع، يمكن أن تُحسب قراءته، لرجلٍ مثله، مضيعةً للوقت. وهذا وهبني فرحًا عميقًا، وزادني ثقةً بأنّ شأن المؤمن أن يُبقي نفسه تحت الكلمة.
من هذه الجِدّيّة التي ترضي الله، أبدأ. ويقيني أنّ حاجتنا جميعًا إلى القراءة، ولا سيّما قراءة الأدب الكنسيّ، يفترضها إيماننا بأنّ الفكر القويم والحياة القويمة صنْوان. فالمسيحيّة لا يحدّها أنّها مذهب "أوادم"، بل جماعة يشغل أعضاءها أن يسلكوا بموجب ما يؤمنون. فأنت، واقعيًّا، لا يمكنك أن تسلك بالحقّ إن لم تعرفه. تقرأ، أي تجعل تعليم كنيستك مرآة نفسك، لتتعرّى من كلّ نتوء، وترتدي حلّةً جديدة. تقرأ، أي تؤمن بأنّ الله وهبك عقلاً، لتستعمله، وتنمّيه، وتوسّع له قلبك، لتغدو قامةً نافعةً في زمن قلّ فيه النافعون، وكثر المدّعون والمبربرون. فالقراءة، للنموّ السليم والخدمة الراضية، ضرورة كما الطعام والشراب. وهذه يحتاج إليها كلّ عضو، في الكنيسة، أيًّا كان.
لا أحد يجهل أنّ مَنْ يقرأون، اليوم، قلّة نادرة، "قطيع صغير". وعلى ذلك، تصل إليك اعتراضاتٌ، يسوقها بعض إخوة، على ما يُنشر هنا وهناك. وليس من اعتراض على مَنْ يعترض على منشور قرأه. فهذا ذوق. وهذا، إن التزم الموضوعيّة، ينفع نشره على الملأ. ولكنّ بعض ما نسمعه قد يخفي حجّة أنّ ثمّة بيننا مَنْ لا يرضى إلاّ بما يرضيه. ولا أكشف أمرًا خفيًّا إن ذكرت أنّ أدبًا لم يعانِ الرفض كما الأدب النهضويّ. لستُ بمتكلّمٍ، هنا، على مَنْ لا يعنيه إرث أحباب النهضة أو يغرّد خارج سربهم، بل على بعض مَنْ يضجّون في البيت من دون أن تعرف ما الذي يستهويهم حقًّا. فَمِنَ المعترضين مَنْ يعترضون، ليعترضوا فحسب. لِمَ؟ لا تعرف.
بلى، ليس كلّ ما يُنشر، وأقصد على صفحات مجلّة النور أوّلاً، له القيمة عينها. فَمِنَ الكتّاب مبتدئون. ومنهم مَنْ رغبتهم في الكتابة أضعف ممّا يعتنون بوضعه على ورق. ولكنّ هذا، على صحّته، يستدعي التذكير بأن ليس كلّ الكتّاب الكبار خلقوا كبارًا من بطون أمّهاتهم. معظمهم وَجدوا مَنْ استقبلهم على صفحاته، وتحمّلهم زمانًا، ليغدوا ما هم عليه اليوم. وهذا أمر يجب أن نعلّيه كثيرًا. وبلى، ليس كلّ مَنْ يكتب يرضى الجميع عمّا يخلّفه. وفيما لا نحتاج إلى تأكيد أنّ مجلّة النور لم تنشر يومًا مقالاً يخالف الإيمان القويم، هذا، أيضًا، يستدعي التذكير بأنّ أحدًا لم يُعطَ أن يحجز فكرَ متّزنٍ، وأنّ غير الراضين يمكن أيّ واحد منهم أن يخطّ ردًّا، إن تقيّد بأصول الردّ، فله المدى كلّه.
ثمّ يعنيني أن أخبر أنّ شخصًا حبا إلى السبعين، لا علاقة لتربيتنا النهضويّة به، قرأ، يومًا، على صفحات مجلّة النور مقالاً يحثّ على الخدمة، وراسل أسرتها. قال: "إنّ ما قرأته جعلني أعيد حسابي في أمر عمري وحضوري. نبّهني إلى أنّ ما من عمر يسمح لأحد بالاستقالة من الخدمة"!
هذا مثلٌ يبيّن لنا أنّ ثمّة مَنْ يقرأون، لينتفعوا. فـ"كيف تقرأ؟" هو السؤال الذي لا غنى عنه أمام أيّ كتابة مفيدة. فللقارئ دورٌ في ما يقرأه. وَمِنْ دوره أن يقدّر تعبَ مَنْ يكتب، ليشهد، ويُغني. ومنه، تاليًا، أن يلتزم أنّ أساس كلّ قراءة أن تُقبل الكلمة الأخويّة من أيٍّ كان، كبيرًا أو صغيرًا. وهذا يجعلنا نؤكّد أنّ القراءة، كما الكتابة، موهبة. فأنت، قارئًا، يحرّكك ما يمسّك. وما يمسّك أساسُهُ ما وضعه الله فيك، ليغنيك، ويغني بك مَنْ يحيا وإيّاك في معيّة طيّبة. فَمِنْ دواعي أيّ موهبة، منحها روح الله لنموّ جماعته، أن يحرّكها ما يعنيها، ويقوّيها، وينمّيها. ولذلك ترى الذين يحبّون الخدمة يحرّكهم ما يؤكّدها. والذين يحبّون الحياة النسكيّة يحركّهم ما يؤكّدها. والذين هواهم وضوح الكلمة وفهم الخدم الليتورجيّة وحياة القدّيسين وتعاليمهم والفنّ الكنسيّ... يحرّكهم ما يؤكّدها أيضًا. وهذا، إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الجماعة الكنسيّة لا تُختزل مواهبها بموهبة من دون أخرى. فالجماعة مواهبها متعدّدة. وشأن الموهوب أن يحترم المواهب طرًّا، ويبيّن حاجته إليها كلّها. فأنت، لتكون قراءتك سليمةً، يجب أن تقرأ بعينين كنسيّتين. إن كانت رفعة الكنيسة تعنيك، تقرأ كلّ ما كُتب على أساس ما يعنيك، ولو كان ما يمسّك في موضع آخر. تعنيك الكنيسة، حياتها، تعليمها، فنونها، نهضتها، رفعتها، انتشارها، فتقرأ، وتشكر.
إلى هذا، ثمّة أمر يجب قوله، بتواضع، قَبْلَ أن أختم هذه الخاطرة. وهو أنّ مجلّة النور هي منبر يعتني بمخاطبة الجماعة الكنسيّة أوّلاً. وهذا أمر، بحدّ ذاته، يجب أن يدفع كلّ مَنْ يعنيهم أمر كنيستهم إلى العمل على نشرها، وتاليًا الكتابة لها (إن أمكنهم ذلك). هذا رجوته في مقال آنف. وأقوله، ثانيةً، لكلّ الإخوة الغيورين والذين منحهم الله خبرة أن يكتبوا، ليخفّفوا من جهلنا. ورجائي ألاّ يستثني قادرٌ نفسَهُ، ولا سيّما إن كانت له اعتراضاته الموضوعيّة. فالعمل خير من أيّ كلام يهدم، ولا يبني، خير من أيّ كلام يعرف ابن البيت (أو هذا ما يجب) أنّه ليس ضيفًا فيه.
هذه خاطرة، لنبقى على ثقة بأنّ أيّ عمل، كلّفنا الله أن نزاوله، يصعب إتمامه إن لم نعمّر قلوبنا بالرجاء أن يكون هو معنا، ويساعدنا على أن نعي جيمعنا أنّنا مسؤولون، معًا، عن كلّ ما كشفه لنا من خيرٍ يبني.