مِنْ أجمل ما سلَّمَنا إيّاه الحركيّون الأوائل أنّ الحياة الحركيّة حياةُ قربى تعلن، بثقة، أنّ السماء باتت هنا. وهذا، الذي تقوله ليتورجيا كنيستنا التي تجمع أناسًا مبعثرين وتوحِّّدهم بالله معًا، أي الذي لم يخترعه مؤسّسو تيّارنا النهضويّ، يكشف أنّ صلاة الجماعة ليست لقاءً عابرًا، بل إنّما هو لقاء الحياة.
لا أذكر هذه المسلَّمة، وفي ذهني أنّها غائبة عن الحاضر غيابًا كلّيًّا. فكثير من الإخوة، في غير موقع، يحيون على أساس أنّ من عمق روح النهضة أنّ الله قرّبنا إليه وبعضنا إلى بعض. وما هذه السطور، سوى تعبير شكر لله أنّه مَنَّ علينا بهذه القربى الواحدة، لنبقى على ما نحن عليه حيث نحن أمناء، وتاليًا لنحاسب أنفسنا حيث ترانا أخذنا ننشغل بأمور أخرى، ونسترجع ما نفقد كلّ قيمة من دونه. وإذا تابعت التأمّل في المسلَّمات، فلا يفوتني أن أذكر أنّ القربى، ولا سيّما في الجسم الحركيّ، لا تنحصر بعمل المسؤولين فيه، أي، مثلاً، بالمرشدين الذين دورهم أن يسهروا على حياة أعضاء فرقهم دائمًا (أنظر: مجلّة النور، افتتاحيّة العدد الثالث، 2009). كلّ أخ، وعى أنّ الله قرّبه إليه، هو مسؤول عن خدمة القربى.
لا أريد، بما أقوله هنا، أن أهتك المروءة. لكن، يعنيني أن أخبر أنّ ما لفتني في الجماعة الحركيّة، ويلفتني دائمًا، هو فكر الإخوة المتوثّب. وهذا الفكر، الذي يصفع أذنيك وقلبك لتتوب إلى الله حقًّا، لم يشعرني، يومًا، بأنّه مفصول، عندهم، عن واقع الحياة. كلّ ما يقوله الإخوة تراه يرتسم على وجوههم وفي علاقتهم بعضهم ببعض، وبالمؤمنين جميعًا. كلامهم يخرج، في آن واحد، من أفواههم وعيونهم وقلوبهم. قلوبهم المفتوحة. قلوبهم التي تسع الكلّ. جمالهم الأخّاذ، الذي يفتن الألباب، هو حبّهم بعضهم لبعض. وحسبي أنّ ما أقوله، هنا، هو سحر التيّار النهضويّ أمس واليوم، وأرجو دائمًا.
يمكنني أن أكتب مئات الشهادات عن هذه القربى التي داعبت عينيَّ يومًا فيومًا، وشغلت فؤادي باستمرار. ولكن، ما يمكن أن يختصرها كلّها أنّ الجسم الحركيّ هو، طبيعيًّا، جسم أخويّ بكلّ ما للكمة من معنى. وجود الحركيّين معًا لا يحدّه أن يعرفوا إيمان كنيستهم، على أهمّيّة الإيمان، ولا أن يشاركوا في صلوات كنيستهم، على أهمّيّة الصلاة، بل، إلى ذلك وغيره ممّا يبني، أن يحيوا معًا بعضهم إلى بعض. أن يحيوا معًا، أي أن يعرفوا تقدّم بعضهم في حياة التقوى، وأن يعرفوا مشاكل بعضهم ومحنهم المزمنة والطارئة. وأن يحيوا معًا، يعني أنّهم، شركاء، يتكاشفون في كلّ شيء. وأن يحيوا، يعني أن يساعد القويّ الضعيف، ليتقوّى الكلّ، إن أمكن. ويحلو لي أن يعرف قارئي، إن أبعد عن عينيه أنّني أدّعي الخبرة، أنّ هذا كلّه قد أعطاني أن أفهم، على قدر استطاعتي، أمورًا طرحتها كتبُنا المقدّسة، كان عسيرًا عليَّ أن أعرفها من دون رؤية حياة الإخوة معًا. وهذا، كما حاولت أن أفهم لاحقًا، من صُلب إيمان كنيستنا التي جعلت الحياة مصدرًا من مصادر تفسير الكتب. فحياة البرّ، التي تستخرج من الكتب، يمكن أن تردّنا إلى الكتب أيضًا، لنفهم. ومثالاً على ما أقوله، كان من الممكن أن تبقى، عندي، قولة بولس: "فَمَنْ يكون ضعيفًا ولا أكون ضعيفًا؟ وَمَنْ تزلّ قدمُهُ ولا أحترق أنا؟" (2كورنثوس 11: 29)، قولةً، على لطفها الظاهر وصدقها العميق، تعني قائلها، أو من مخلّفات الزمان الغابر. ما جعلها لي وصيّةً ملزمةً، تخصّ كلّ زمان ومكان، سلوكُ إخوةٍ كلُّ همّهم أن نوافق المكتوب، أي أن نسكن النور.
في هذا العالم، عندنا أمرٌ من اثنين. إمّا أن نبقى في الظلمة، وإمّا أن نسكن النور. والنور هو المحبّة المتجسّدة في حياة كنيسة كُلِّفت أن تنقل العالم من الظلمة إلى النور. أليس هذا ما عناه الربّ بقوله: "أعطيكم وصيّةً جديدةً: أحبّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم، أحبّوا، أنتم أيضًا، بعضكم بعضًا. إذا أحبّ بعضكم بعضًا، عرف الناس جميعًا أنّكم تلاميذي" (يوحنّا 13: 34 و35)؟ هناك سبل عديدة يمكن أن تخدم نقل البشارة في الأرض. ولكنّ الربّ، الذي يعرف ما يحمي كنيسته ويظهره في العالم دائمًا، رفّع المحبّة فوق كلّ اعتبار. وهل غير هذا ما عناه بولس بقوله: "لو تكلّمت بلغات الناس والملائكة، ولم تكن فيَّ المحبّة، فما أنا إلاّ نحاس يطنّ أو صنج يرنّ. ولو كانت لي موهبة النبوّة وكنت عالمًا بجميع الأسرار وبالمعرفة كلّها، ولو كان لي الإيمان الكامل فأنقل الجبال، ولم تكن لي المحبّة، فما أنا بشيء. ولو فرّقت جميع أموالي لإطعام المساكين، ولو أسلمت جسدي ليحرق، ولم تكن لي المحبّة، فما يجديني ذلك نفعًا" (1كورنثوس 13: 1- 3).
هذا روح إيماننا إن كنّا نرجو أن يرانا الله شيئًا. ونحن، الذين استلمنا هذا الإيمان، دورنا أن نحافظ عليه في وقت مقبول وغير مقبول. يجب أن نزداد ثقةً بـأنّ التزامنا المحبّة هو الذي يصنع المعجزات. ثمّة كثيرون، يحيون بين ظهرانينا، لم تصل إليهم أخبار السرور التي تُفرح السماء. ثمّة كثيرون مشغولون عمّا يحييهم أبدًا. ثمّة كثيرون يجوبون الأرض بحثًا عن معجزات تدغدغ شعورهم. ونحن سيبقى دورنا أن نحبّ، ليفهم العالم أنّ المعجزة الحقيقيّة، التي يجب أن يفتّش عنها، قائمةٌ في موقعها، أي في حياة كنيسة ليس مثلها شيء، في حياة كلّ عضو من أعضائها. لقد كانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، فقط، لتخدم قربان الله الذي هو محبّة (1يوحنّا 4: 8). هذا ما أراده الله في زمان الرضا. وهذا يجب أن يكون عملنا الدائم في غير موقع نزلنا فيه، لنحصّن قلوبنا بالحقّ، ويكتشف القاصي والداني أنّ السماء باتت هنا فعلاً.