أخذ، منذ بضعة أسابيع، مجلّةَ النور جدلٌ طويل، في موقع الـMJO Group، على شبكة الإنترنت. أثار هذا الجدل، وشارك فيه، إخوة حركيّون. بعضهم يحيا هنا، وبعضهم الآخر في الخارج. كلّهم معًا أبدوا اهتمامًا ظاهرًا في المجلّة، مجلّتهم، وتوقًا إلى دوام حسنها والمزيد. فانتقدوا حينًا، وردّوا الانتقاد أحيانًا، وقدّموا اقتراحات في أحيان أخرى. لم تأخذ الإخوة، هذه المرّة، مقالةٌ، أو رأيٌ مكتوب، بل المجلّة كلّها. كلّ ما قيل له قيمته عند قائله. ومعظم ما قيل له قيمة عند الجميع. وقد يكون بعضٌ قد انزعج من بعض الردود. وليس بين الإخوة دوام انزعاج. فالمنتظَر، دومًا، أن تمحو كلَّ انزعاج المحبّةُ الأخويّة الثابتة التي تحصّن القلب، وتمنع من أن يزعزعه أيّ أمر.
عرف الموقع المذكور، منذ نشأته، نقاشات حول مواضيع متنوّعة. ومعظمها مفيد. فما يمكن أن يُحسب فرادةً ونفعًا أنّ هذا الموقع قد استطاع أن يجمع الإخوة، المقيمين في رحاب هذه الأرض والذين أبعدتهم ظروف حياتهم عنها، في حوارات يبيّن عمقها وجدّيّتها أنّ أيَّ بُعْدٍ لا يمكن أن يقوى على القلب المأخوذ بحبّ الله وكنيسته. فالكنيسة تبدو، عند الكلّ، باقيةً أبدًا في الفكر والوجدان. ومَنْ جَرَحَهُ حبُّها، من الصعب أن يشفى جرحه. ونحن، في كثير من المداخلات، كنّا نشتمّ عطر الجروح، ونتعزّى، ونفرح.
غير أنّ هذا لا يمنع التذكير بأن ليس كلّ ما يقال، أو يجب أن يقال، من اللائق أن يقوله أحدُنا، دائمًا، علنًا. فثمّة أمور تفترض تربيتُنا الكنسيّة أن نقولها لمن نطلب أن يعرفها أولاً. وهناك أمور كثيرة يمكن أن يبدأها المرء بسؤال، أو بطلب توضيح، وغيره. وذلك حتّى لا يلغي أحدٌ عملَ آخر، أو يفترض أنّ ما يجب أن يصير، لا يصير. ولا أعتقد أنّ أحدًا منّا ينكر أهمّيّة الحوار وجهًا بوجه. وهذا لا يلزم مَنْ هم في الخارج، إذا تعذّرت عليهم العودة، أو طال أمد بعدهم، أو ضاقت بهم سبل المراسلة الشخصيّة. لكنّه، بالضرورة، يلزم الذين يحيون، هنا، معنا. فهؤلاء، أي الموجودون هنا، قادرون على المواجهة، ولا يمكنهم أن يبدلوا دفأها بأيّ سبيل آخر. ويعرف مَنْ اختبر التخاطب عن بعد، ولا سيّما التخاطب المكتوب، أنّه قد يتعذّر، أحيانًا، على قارئه أن يفهم كلّ ما يريده فعلاً. وقد يتعثّر آخر من رأي يعني صاحبه. وقد تنقسم الآراء. وقد تجتمع من دون أن تجمع دائمًا.
لا أقول هذا انزعاجًا من أحد. فأنا لا أعتقد أنّ مجلّة النور تخصّني، أو أسرة التحرير، أكثر ممّا تخصّ الذين يأخذهم حبّها وقراءتها والكتابة لها وتوزيعها. ولا أريد، في ما سأقوله، أن أستعمل ما يبدو موقعي، لأردّ على أحد. وهذه حجّة طرحت في خضمّ الحوارات. بل يعنيني أنّ أذكّر بما قلتُهُ قبلاً، وبما ورثناه نهجًا نافعًا من الأوّلين، وهو أنّ مجلّة النور لا تحتجز الفكر، أو تحتكر النشر، ولو أنّها قد اعتُبرت، في ضميرنا جميعًا، منبرًا للفكر النهضويّ أوّلاً. أجل، إنّ مجلّة النور هي مجلّة الكلّ. أي مجلّة الله، الذي هو الكلّ، ومجلّة مَنْ آمنوا بفكره وطهره، وأرادوا أن يقولوا مشيئته على صفحات تصل. والوصل هو في المحبّة أوّلاً. ومِنَ المحبّةِ احترامُ مَنْ أرادنا ربّنا أن نوليه احترامًا، أي كلّ إنسان في أيّ موقع كان. وهذا لا يمنع الاختلاف، أو تبيان الاختلاف، بل يمنع أن تكون الكتابة، أيّ كتابة، سببًا لخلاف. ولا أقصد ألاّ نخالف الخطأ. لكن أن نبقى على محبّة مَنْ نحسبه قد أخطأ. فالمحبّة، التي قال فيها كتابنا إنّها "تستر كثيرًا من الخطايا" (1بطرس 4: 8)، وإنّها "تعذر كلّ شيء" (1كورنثوس 13)، هي قاعدة كلّ تخاطب نريد به تبيان حلاوة الله في وجود قد يبدو لنا متعبًا (وقد يكون متعبًا بالفعل). وهي عينها قاعدة كلّ ما يقال، أو يعمل، خدمة للكنيسة وبنيان أهلها، وبلوغهم "القامة التي توافق كمال المسيح" (أفسس 4: 13).
مَنْ تابع مجلّة النور، منذ مطلع ظهورها، لا يخفى عليه أنّ بعض ما سجّلته صفحاتها لا يعني الحركيّين في تجاوبهم والإيمان بالنهضة. نشروه. ولهم أسباب نشرهم. فأنت، إن فتحت الباب، تنتظر أن يدخلك من يروقك فكره وَمَنْ لا يروقك. فتحاول أن تجنّب نفسك، على قدر ما تستطيع، السقوط في معمعة الأخذ والردّ. تؤمن بالردّ وبحقّ الردّ. وتعرف أنّ كثيرًا من شعبك يأخذ المجلّة، ويقرأها باعتباره أنّها تنشر له ما يجب أن يعرفه، ويحفظه، وينقله. ولا أقول هذا عن حدود العقيدة التي لم تتجاوزها، أو تمسس نورَها، المجلّةُ يومًا. لكن عن بعض آراء قد يخالها بعضنا أساسًا من أسس استقامة الرؤية فالحياة. فالذي يعرف الواقع، في كنيستنا، لا يخفى عليه أنّ كثيرًا من الآراء يضعها بعضنا في مستوى العقيدة وحقّها ولزومها. وعلى هذا أمثلة كثيرة. ولسنا بمعرض ضرب الأمثال. فما نحتاج إليه، في سياق التخاطب الجامع، هو أن نؤمن بأنّ مساحة الفكر، في كنيستنا، هي كبيرة، وكبيرة جدًّا. وفي هذا غنًى لجميعنا. وذلك إن لم نتحزّب، أو ننكر على أيّ آخر حقّه في ذوقه وما يراه هو حلوًا. ولا ننسى أنّ الإخلاص قد يدفعك، أحيانًا، إلى التشدّد، أو التصلّب على غير رأي. وليس في التشدّد المخلص أيّ عيب. هذا، إذا لم يغلق المتشدّد قلبه دون البركات التي يغدقها ربّنا على الجميع.
ربّما يعتبر بعضنا أنّ مسؤوليّة أسرة التحرير أن تنشر كلّ ما يصل إليها، وأن تفضّله على ما يضعه أحد أعضائها. وهذا، في الواقع، غريب عن عالم النشر الذي نعرفه بالخبرة، لا بالتخصّص. فالمعروف أنّ أيّ منشور يحمل عاتقه مَنْ كلّف به أوّلاً. والمكلّف له رؤيته وعلمه وذوقه. ولا يستطيع أحد، ولا سيّما المكلّف نشرًا، أن يفرض ذوقه على غيره. ليس في الذوق عيب، بل إنّما العيب هو في الفرض، كلِّ فرض. فإذا كان الله قد أوجدنا أحرارًا، فهذا، لزامًا، يعني أن نحترم مَنْ حرّرهم هو. ولكنّ الفرض قد يأتيك من كاتب يحسب أنّ ما يكتبه ملزِم. وإن أنت أبيتَ نشر مقال له، لأسباب وجيهة، يعتبرك مخالفًا! وحتّى لا يفهم أحدٌ ما ذكرته بطريقة خاطئة، أبدي أنّ بعض ما يصل إلينا، من مقالات، يعيق نشرنا إيّاه، في بعض الأحيان، أسلوب وضعه. ولا أقول هذا تبريرًا. فإن كنّا نطلب جميعنا أن تكون مجلّة النور نورًا في كنيستنا، فهذا لا يكفيه أن نكتب، بل أن نعرف أيضًا كيف نصوغ ما نكتبه. ولقد كان من الممكن كثيرًا أن نعيد صياغة بعض ما لم ننشره، لو لم يكن خوفنا من أن نفرض أسلوبنا على أحد. ويبقى، في كلّ حال، أن نعتقد أنّ غاية كلّ كتابة أن تصل، أن تُقرأ، أن تفيد، وأن تبني. وهذا، الذي أراه غايةً التزامُها مرجوّ دائمًا، يغدو، إذا تُجُوِزَ، سببًا وجيهًا لعدم النشر.
لقد قلتُ، في ردّيَّ اللذين نشرا في موقع الـMJO Group، أمورًا عرفها مَنْ تابع النقاش قراءةً، أو كتابة. ويعنيني أن أقول، هنا، إنّ ما جرى من نقاشات، أتوافقُ على بعضه أم لا توافق، بيّن أنّ هذه المجلّة يريدها معظمنا أهمّ ممّا هي عليه اليوم. وهذا هو همّ أسرتها، وهمّ الأمانة العامّة والحركيّين طرًّا. وإذا توافق الهمّ، يكون معظم ما قيل يصبّ في مصلحة المجلّة ودورها في بثّ روح النهضة. وفي هذا عزاء لنا وفرح.