1مايو

حوار يسوع مع السامريّة

الأحد الرّابع بعد الفصح في التقويم الكنسيّ الأرثوذكسيّ يوافق أحد السّامريّة - فوتيني.

            حوار يسوع مع المرأة السامريّة واحد من الحوارات التصاعديّة العديدة التي حفظها الإنجيليّ الرابع، وتركها لنا كشفًا لسرّ يسوع "مخلّص العالم" (يوحنّا 4: 5- 42).

            أوّل ما سنفعله، في هذا التأمّل، هو أن نراجع الآيات الأربع الأولى التي لم تلحظها القراءة الطقسيّة. نقرأ: "ولمّا علم يسوع أنّ الفرّيسيّين سمعوا أنّه اتّخذ (الكثير) من التلاميذ ... ترك اليهوديّة ورجع إلى الجليل. وكان عليه أن يمرّ بالسامرة". هذه الآيات تدخلنا في عمق الحوار مع السامريّة، وتساعدنا على فهمه. فيسوع، الذي بدأ رسالته في اليهوديّة وفق رواية يوحنّا، صمّم، تحاشيًا لخلاف ظاهر بينه وبين قادة اليهود، على الانتقال إلى الجليل، موضعِ بدء البشارة وفق الأناجيل الإزائيّة. غير أنّ هذا الانتقال من اليهوديّة إلى الجليل كان بإمكان يسوع، لو أراد، أن يتمّمه من دون أن يمرّ بالسامرة. كان بإمكانه أن يسلك طريقًا أخرى تصعد في وادي الأردنّ. ولكن، مَن "جاء ليطلب ما قد هلك"، اختار، عن قصد، الطريق التي كان يتحاشاها اليهود، ليظهر لنا شموليّة رسالته.

            بدأ يسوع مسيره فجرًا. وعندما وصل إلى السامرة، كان التعب قد بدا عليه. فجلس على حافّة بئر. وانتظر ضالته. ولمّا أتت كانت منهمكة بعملها، ولم تعره أيّ انتباه. ربّما كانت تخاف من أن تُعْرَفَ لعلمها بخطاياها الكثيرة. كانت تقصد البئر، لتستقي في وقت غير مألوف. ظهرًا. فاقتحم يسوع تجاهلها إيّاه وخوفها، وطلب أن يشرب. استغربت المرأة طلبه. وسخرت منه بعد أن عرفته، ربّما من لكنته. "كيف تطلب أن تشرب منّي وأنت يهوديّ وأنا امرأة سامريّة". "واليهود لا يخالطون السامريّين"، ويعتبرونهم أنجاسًا، وتمنعهم تنظيماتهم من أن يستعملوا إناء سامريّة، بخاصّة إن كانت تستعمله للشرب. غير أنّ يسوع لم يعاتبها على سخريّتها. وصبر عليها صبرًا جميلاً. فابن الله لا يعامل الإنسان وفق ما هو عليه، بل وفق ما يمكن أن يكون، أو أن يصير. وبهذا الصبر، كشف، منذ لحظة الحوار الأولى، أنّه حرٌّ من تعصّب أترابه الدينيّ وعنصريّتهم.

            ثمّ ردّ يسوع على استغرابها بما جعلها تزيد فيه. "لو عرفتِ عطيّة الله ومَن الذي قال لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه، فأعطاك ماء حيًّا". لقد سجّل لنا الإنجيليّ الحوار، لكنّه لم يسجّل ردود الفعل. لعلّ المرأة ضحكت، في سرّها، من كلامه. فعمق البئر خمسة وثلاثون مترًا، والرجل لا يملك حبلاً ولا دلوًا ولا جرّة ليستقي، فمن أين له "الماء الحيّ؟". ثمّ أردفت: "ألعلّك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر...". سخرت من جديد. وبقي يسوع هادئًا. وقَبِلَ تحدّيها، ليجعلها ترتقي، وتطلب هي أن تشرب من بئره المحيية.

            فأخذ الكلام من جديد. وأخبرها عن مائه السماويّ الذي، إن شرب منه أحد، "لن يعطش أبدًا". أثارها كلامه. فسألته أن يعطيها من هذا الماء. انقلب الوضع. إنّها هي التي تسأل، الآن. هي التي تطلب. إنّها المرّة الأولى التي تستغرب فيها من دون أن تهزأ. حيّرها يسوع. فتنها بما يكتنزه. لم تكن تعرف أنّه، بكلامه على الماء الحيّ، يقصد نفسَهُ. ظنّت أنّها بإمكانها أن ترتاح من الناس وغلاظتهم، ومن الاستسقاء في حرّ النهار. كان يسوع يعرف ما أحسّت به. ولكن، كان عليها هي أن تعرف أنّ كلّ عطاء يقدّمه يسوع يفترض تغيير حياة. توبة كاملة. لا يقبل يسوع أن يعطي أحدًا نفسه كلّيًّا ما لم يرتضِ الطالب أن ينقّي ذاته أوّلاً. فالربّ لا يقبل أن نخلطه ودنيانا. يريد أن نقبله دنيا جديدة. ولذلك، ردّها يسوع إلى واقعها.

            "اذهبي وادعي زوجك وهلّمي إلى هنا". أجابته: "إنّه لا رجل لي". أحسنت بقولك هذا، قال لها. وكشف لها أسرار حياتها كلّها إنّما من دون أن يوبّخها، بل، على العكس، شجّعها، ونعتها بالصدق. هكذا يردّ يسوع الناس إليه. يتفحّصهم، ليعرف ما عندهم من نور، ويرحمهم، وينعم عليهم بالاستنارة. فقالت المرأة، بعد أن أدركت رحمته: "أرى أنّك نبيّ". استسلمت له. عادت لا تنوي التهرّب، أو التخفّي. حاورها كما لو أنّها مبرّزة في العلم. سألت عن الحقيقة، عن مكان السجود لله وعن صراع تاريخيّ بين شعبه وشعبها أبدت أنّه يضنيها. هل أدركت أنّه قادر على أن يبتّ المسألة؟ هذا ممكن. صعقها، صعقنا، بجوابه. لقد ولّى زمن العبادة على الجبال. وبَطَل خلاف المعابد. "تأتي ساعة وهي الآن حاضرة إذِ الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ. لأنّ الآب يطلب الساجدين له مِثل هؤلاء. الله روح. والذين يسجدون له، فبالروح والحقّ ينبغي أن يسجدوا". ماذا فهمت؟ أدركت أنّها مقبولة. ليس اليهود ولا السامريّون على حقّ. الحقّ هو الذي يتكلّم معها الآن، لأنّه حبيب الآب، ولأنّ روح الله يستقرّ فيه.

            لقد فتن كلام يسوع المرأة، فأرادت أن تغرف من حبّه أكثر. قالت: "قد علمت أنّ مسيّا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك، فهو يخبرنا بكلّ شيء". كيف انتقلت إلى الكلام على المسيح؟ إنّه سرّ الاهتداء الذي ينعم يسوع به على الذين يحبّونه. قَبِلَ حبّها. ولذلك كشف لها عن نفسه: "أنا المتكلّم معك هو". "فتركت المرأة جرّتها، ومضت إلى المدينة، وقالت للناس: تعالوا انظروا إنسانًا قال لي كلّ ما فعلت. ألعلّ هذا هو المسيح. فخرجوا من المدينة، وأقبلوا نحوه". "تركت جرّتها". لم يبق لها لزوم. لقد أدركتْ الماء الحيّ. ولمّا شربت منه، غدت تلميذة له، تردّد ما قاله التلاميذ قبلها: "تعالوا انظروا".

            هذه المرأة العظيمة قدرت على أن تتجاوز كلّ صعوبة تمنعها من فهم يسوع وقبول عطائه. واضطرّته، إذ تاب عليها وتابت إليه، إلى أن يكشف لها نفسه. وهذا الكشف قادها إلى الناس أترابها. وأخبرتهم عمّا جرى لها، عن تحوّلها. وقاد تحوّلها السامريّين إلى يسوع. فأقام عندهم "يومين"، فآمنوا به، استباقًا لإقامته عندهم إلى الأبد، بعد قيامته في اليوم الثالث، اليوم الذي سينقل تلاميذه، بقوّة الروح القدس، إلى الخليقة كلّها أنّ معلّمهم هو "مخلّص العالم حقًّا".

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content