الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة

                قال صديقٌ لي مرّةً: "أنا لا تفتنني حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة كما تفتنك أنت".

                هل لي، يا بنيّ، أن أرجو أن تقتدي بهذا الافتتان ما بقيتَ حيًّا؟ فشأن الابن أن يقتدي بأبيه، اللَّهمّ إن كان يسلك في الحقّ. أنا لا أريدك أن تقتدي بأخطائي، بل كلّ ما يعنيني أن تحمل أنت هذه الشعلة الفاتنة بيدك وقلبك وعقلك وكلّ ما يتحرّك في نفسك.

                سأروي لك، في سطور سريعة، قصّة قصصي.

                كنتُ فتًى يافعًا يوم التقى بي فتًى يافعٌ، ودعاني إلى اجتماع يعقده بعضُ الشباب النهضويّ في كنيسة رعيّتنا. دعاني، ولم أعبأ به. فأنا كانت شروري تطفح منّي.

                هل تذكر المنطقة التي ولدتَ فيها؟

                كانت تلك المنطقة يشكّل حضوري فيها رعبًا حقيقيًّا لبعض أهلها. فإذا سرتُ في طرقاتها، فلن ترى قربي سوى الذين يشبهونني. الشباب الآخرون، صغارًا أو كبارًا، كانوا، إن مررنا بهم، يبتعدون عنّا كما يبتعد الناس عن مرمى المدافع. كنّا في حرب. وهذه صورة توافق تلك الأيّام التي ذكرُها يشبه ما يعيبني ذكرُهُ.

                لم أعبأ به، قلتُ. سمعتُ دعوته كما لو أنّني لم أسمعها. وكان الشابّ قد حدّد لي موعد اجتماعهم ومكانه. ومرّ الموعد من دون أن ألبّيه. فكيف ألبّي ما لم أعبأ به؟ كيف أردّ على ما لا يعنيني؟ غير أنّ ما أثارني أنّ ذلك الفتى لم ييئسه تمنّعي. بقي حرًّا. وأعاد دعوتي من جديد. رآني، كأوّل مرّة، بالمصادفة. وربّما قصد أن يراني. الله أعلم! رآني، ولامني على تخلّفي. كيف استطاع أن يقربني، ويدعوني، ويلومني؟ لا تسلني. لا أعرف. كيف سمحتُ له بذلك؟ لا تسلني. أين كان إلحاح شروري؟ لا أعرف. أمّا اليوم، فبتُّ أعرف أنّ ما من أحد، في الأرض، يمكنه أن يقوى على مَنْ يحبّون الله أبا ربّنا يسوع المسيح. ذاك الفتى، في فصاحة لجاجته وقدرته على اللوم، كانت قوّته لا تقاوم. لم أكن، حينئذٍ، أدرك أنّ البرّ أقوى من كلّ أنواع الشرّ. وغلبني برّه. ورأيتُ نفسي أقعد، كطفل رضيع، إلى بعض شباب يتكلّمون لغةً لم آلفها. والمفارقة أنّ ما لا تألفه قد يثيرك كثيرًا. فأثارتني لغتهم كثيرًا. وغلبتني أيضًا.

                بتُّ، مغلوبًا، أحمل نفسي، في كلّ أسبوع، وفق الموعد المحدّد، إلى ذلك المكان المحدّد الذي قاعتُهُ باتت قاعتي سريعًا. مذ دخلتُها، لم أغبْ عنها مرّةً واحدة. لا، ولا أيّ مرّة. ووجدتُ نفسي مأخوذًا بلغةٍ لم أكن أعرف أنّ مفرداتها كُتبت على لوح قلبي من قَبْل. علّمني هؤلاء الفتية أنّ التوبة لا تأتيك من خارجك. وتاب ما فيَّ إليهم.

                أريدك أن تنتبه إلى هذه الجملة الأخيرة (وتاب ما فيَّ إليهم). ربّما كنتَ تنتظر أن أقول: ودفعوني هم إلى أن أتوب إلى الله. وحسبي، بما كتبتُهُ، أنّني قلتُها كما يجب أن تقال تمامًا. فالتوبة، في تعليم كنيستنا، هي توبة إلى الله القائم في جماعته. فهمتُ، قَبْلَ أن أفهم، أنّ التوبة ليست أن أترك عيوبًا تأسرني فقط، ليست أن أغيّر هذا السلوك أو ذاك فحسب. فالتوبة، التوبة، أن أترك غربتي عن إخوتي، أن أرى قربان الله في ملازمتهم وزمالتهم. فالله قائم في إخوتي. وألفيتُ نفسي أسيرهم في كلّ شيء. بتُّ أنتظر أن يومئ إليَّ أحدُهم بيده، بعينه، فألبّيه كما العبد المطيع. علّمني إخوتي كلّ شيء. وأعلى ما علّموني إيّاه أن أفهم الحرّيّة انطلاقًا من طاعة الحقّ الذي يقيم فيهم.

                هذا ما بقي يفتنني. وأنا لستُ أشيد بنفسي التي لم يفارقها حزني على خطايا شبابي التي أرجو ألاّ يذكرها ربّنا. وصدّق أنّ فخري هو بالربّ الذي "أحبّنا، فحلّنا من خطايانا بدمه". وحركة روحه هي فخري.

                كلّ ما قلتُهُ لك، في سياق دعوتي إيّاك إلى أن تحفظ الإيمان القويم، رجائي أن تراه، دائمًا، في معيّة هذه الجماعة الفتيّة الطالعة من الفجر. لا، لستُ أراها تختزل كنيسة الله، بل تبيّن، بفصاحة، أنّ الكنيسة إنّما هي كنيسة الروح القدس.

                حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، قيمتها العظمى أنّها تعلّمنا أنّ الكنيسة أن نحيا، معًا، كلٌّ وفق الموهبة التي أغدقها الروح عليه. هذا سيرٌ لله في الأرض!

                لم أكن أحسب، قَبْلَ أن ألبّي دعوة ذاك الفتى الذي غلب تمنّعي، أنّ ما اكتشفتُهُ يمكن أن يكون موجودًا في الأرض. كانت الكنيسة، عندي، أن أحجّ إليها في عيدَي الميلاد والفصح. وكنتُ أحجّ غصبًا عن إرادتي. وربّما ما قد أحسبه دافعًا، إلى لجاجةِ ذويَّ، ولا سيّما أمّي، أنّ شيئًا من المسيحيّة كان ما زال عالقًا بي. فالروح، الذي وهبنا نِعَمَهُ في المعموديّة، لا يتركنا، ولو تركناه! هذا الشيء هو ما تحوّل فيَّ، بدفع هؤلاء الفتية، إلى كلّ شيء. هذا هو الصيد الحقيقيّ، الصيد إنجيليًّا. لقد ألقى ذلك الفتى شبكةً عليَّ، وعلقتُ بها. علقتُ، ولم أستطع أن أخرج. هذا أسلوب الصيد الجديد ومدى الصيد الجديد.

                لا أقول لك أنِ افتتن بتيّارٍ أعضاؤه بررة كلّهم بأجمعهم، بل افتتن بإخوة يجاهدون في سبيل إحقاق حقّ الله فيهم أوّلاً، وفي جماعة الله تاليًا، وفي كلّ الناس دائمًا. هؤلاء دَينهم على أبيك كبير. هؤلاء "دَينهم لا يُرَدّ".

                لو قلتُ لك إنّ جماعة التيّار النهضويّ كلّهم من دون أيّ نتوء، للوّنتُ لك الحقّ بألوان لا تخفي ما لا يخفى عن الله. وثقتي بأنّك تعرف أنّ هذا ليس أسلوب التخاطب بيننا. لقد عوّدتُكَ أن أقول لك الحقّ. وأنت تعوّدتَ أن تنتظره منّي من دون أيّ تلوين. والحقّ، كلّ الحقّ، أنّ قيمة هذا التيّار النهضويّ ليست في مَنْ يدخلونه من دون أن يدخلوه حقًّا، بل في مَنْ يعتبرون أنّ دخولهم فيه مآل جِدّة أبدًا. أنت تعلم أنّ ثمّة، في العالم، أناسًا تثيرهم الخطايا التي يرونها في بعض أعضاء الجماعة الكنسيّة. ويعمّم معظمهم ما يرونه على الكلّ تعميمًا يُجانب الحكمة المنقذة. أمّا أنت، فما ينتظره ربّنا أن يأخذك أنّ الكنيسة أبوابها مفتوحة. هذه الأخطاء القاتلة، التي قد تُرى، ليست ما يجب أن نستقرّ في رؤيته. ما يجب أن نعطيه كلّ عيوننا أنّ هذا الموقع، الذي قد تبدو فيه أخطاء متعبة، هو الموقع الذي يشفينا وحده. هذا موقع يظلّله جمالُ رَبِّهِ ورحمةُ رَبِّهِ وعظمةُ رَبِّهِ. كلّ حقيقة الله قائمة في موقعٍ حَكَمَ اللهُ على أهله أن يجاهدوا معًا. وإن دخل هذا الموقعَ أحدٌ، تظهره تصرّفاته أنّه لم يدخله، فيجب أن نعتبر برحمة الله الذي يريد أن تبقى أبوابه مفتوحة. وهل يجوز أن يكون لنا غير إرادة الله إرادة؟

                ضعْ هذه الكلماتِ في قلبك. وأحبب الله في الإخوة، ولا سيّما الذين يحتاجون إلى محبّتك. فالمحبّة هي التي تعطي عينَيْك أن تَرَيا ما ربّما لا يراه المصرّون على رؤية الخطايا.

                هل تعرف ما هو العمى؟

                العمى هو ألاّ نرى الله في مَنْ يحبّونه.

                يوم دخلتُ تلك القاعة، التي يجتمع فيها بعضُ مَنْ أغراهم أنّ الله يحبّنا، كنتُ أعمى كلّيًّا. وتعلّمتُ عليهم أن أرى خطاياي التي تعيقني عن رؤية الله. جلّ الناس يعتقدون أنّ الله أوجد لنا عيونًا، لنرى لا سيّما سوانا. أمّا نحن، فيجب أن نعتقد أنّه أوجدها، لا سيّما لنعطف على سوانا، ونرى إلى خطايانا في كلّ حال. من وجهك تطلّ على قلبك. وإن دخلتَهُ، تفهم ما أقوله لك.

                أريدك أن تثق بأنّ مدانا، أمسِ واليوم، لم يجد تيّارًا، مثل التيّار الذي أرجو أن يفتنك دائمًا، قادرًا على إظهار وحدة كنيستنا. أنت لا بدّ من أنّك تذكر أنّني قد تغيّبتُ عن منزلنا مرّاتٍ كثيرة. كنتَ أنت نفسك، قَبْلَ أن تحسن النطق، تبرّر غيابي لِمَنْ يسأل عنّي: "عنده اجتماع" (أو "ادّتماع"، كما كنتَ تلفظها). وهذا صحيح. فبعض أسباب غيابي أنّني كنتُ ألتقي، في اجتماعات خاصّة، ببعض إخوة كانوا يأتون من غير مكان. كنتُ أسمعهم يتكلّمون لغةً واحدة. ورأيتُ معهم أنّ لنا هواجسَ واحدةً ومصاعبَ واحدةً وطموحاتٍ واحدة. هذه الحركة، التي دخلتُها أو دخلتني، أفهمتني معنى أنّ كنيستنا إنّما هي واحدة.

                في الكنيسة، أصوات عدّة يعتقد كلٌّ منها أنّ له أسلوبَهُ للوحدة. لا تصدّق كلّ صوت، ولا سيّما الذي يختزل الكلّ. إن رأيتَ أنّ ثمّة ما يحاكي بعض ما أقوله لك، فمجّد الله الذي يتعهّد ترابنا، والزم ما كشفتُهُ لك. فهذا كشف لا مثيل له. هذا، إن التزمته دائمًا، يذيقك خير وحدة تعلّمك معنى أنّ الله أحبّك، لتقضي حياتك في خدمته وشكره.

                ثمّة أناس يموتون مدينين لآخرين، ويورّثون دَينهم لِمَنْ يخرجون من صُلبهم. هذا دَيني. وأنت ابني. أنا أخذتُ أعرف أنّني لن أقدر على أن أردّه. حاول أنت. وإن لم تستطع، فغناك، أيضًا، أن تورّث أولادَكَ دَينًا لا يُرَدّ.

شارك!
Exit mobile version