عندما أخبرني صديقي المحامي إبراهيم رزق ليلة الأحد في الخامس من أيلول المنصرم أنّ أخانا جورج ناصيف قد رقد، هاجمتني كلمة يسوع ربّنا "أنا هو القيامة والحياة" (يوحنّا ١١: ٢٥)، لسببَين. السبب الأوّل أنّ جورج كان يحبّ يسوع في الناس جميعًا، لا سيّما المنكسرين منهم. كان يحبّ يسوع المنصرف دومًا إلى إقامة فصحه العظيم في الفقراء والمشرَّدين والمظلومين في الأرض والذين يبحثون عن قُوتهم في ملاجئ القطط... لم أقل إنّه أتى منهم إليه. يسوع سرّه، إن أتيتَ إليه، أنّه يأخذك هو إليهم، وإن أتيتَ إليهم، أنّك تجده عندهم حيًّا ومحييًا. السبب الثاني للتعزية. كان جورج ناصيف يؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ المسيح قام. كان يقول إنّ "القيامة هديّة الله للإنسانيّة جمعاء". أجمل الناس هم الذين لا يختزلون الله في أنفسهم! قال أمامي مرّةً حزنًا على الذين يعتقدون أنّ الله هو لهم وحدهم: "كيف يكون الربّ حرًّا من القبر، وفي الآن عينه سجينًا في خيال أناسٍ يعتقدون أنّه إلههم من دون غيرهم؟"! في الخامس من أيلول، دخل جورج ناصيف في "إيمانه". أُعطي أن يختبر، أكثر فأكثر، أنّ المسيح قائم فيه أيضًا كلّيًّا. هذا لم يكن له اختبارًا جديدًا بالكلّيًة. الذين ذاقوا حلاوة يسوع في سرّ الصلاة والكأس المقدّسة والكلمة التي ليس مثلها كلمة وشركة الإخوة، اختبروا حياته فيهم "الآن وهنا"، على قدر استطاعتهم. منذ أن رقد جورج، أُعطي أن يختبر الفصح فيه، بلا أيّ تراجع، إلى الأبد.
لا أذكر متى بدأت صداقتي معه. إن دقّقتُ في ذاكرتي، أرى أنّ صداقتنا بدأت قبل أن نلتقي. هذا سرّ الذين جمعتهم نهضةُ كنيستهم وأهلُها، ولا سيّما منهم أسقفها الشيخ المؤسّس... بلى، بدأت صداقتي معه في تاريخ معيّن، في يوم ومكان محدَّدين. ولكنّي لا أكون دقيقًا فعلاً إن لم أؤكّد تكرارًا أنّي عرفتُهُ قبل أن أعرفه. مَن هو جورج ناصيف بالنسبة إليَّ؟ قلت. إنّه أخ. إنّه أخي، أخوك، أخو أيّ إنسان يعرف أنّ الله يحبّه أو لا يعرف شيئًا! هذه هي الكلمة التي، إن ضاعت من العالم، يضيع العالم. لا أقلّل من قيمةِ صداقةٍ ذكرتُها. لكنّي أحكي عن سرّ الوجود الجديد الذي اخترعه يسوع الناصريّ. الناس قبل يسوع أقرباءُ أقربائهم باللحم والدم أو الدين أو القبيلة. جاء يسوع، ومدّ يده نحو السماء، وفتحها كما نفتح نافذة، وقال للناس جميعًا: "هذا بيت الله أبيكم. أنتم جميعكم إخوة". هذا كلّه ترداد لما قاله لتلاميذه قبل أن يذهب إلى موته، أي ترداد للكلمة الفذّة التي أراد يسوع من جماعته، في غير جيل، أن يبنوا عليها كلّ كلمة أخرى.
الجميل في جورج ناصيف أنّه كان على قدر "الكلمة". كان معك أبدًا، في حزنك وفرحك. كان سندًا حقيقيًّا، أخًا حقيقيًّا يمكنك أن تلجأ إليه في أيّ وقت أو يبادر إليك، في أقصى استعداداته، إن شعر بأنّ عليه أن يبادر. هذا لم ينحصر في أبناء كنيسته. لا بأس إن كرّرتُ أيضًا. كان أخونا يحيا أخوّته للناس بلا حدود بينه وبينهم، أيًّا كانوا. صدمني مرّاتٍ عديدة. كنّا مرّةً في مطعم نتناول العشاء. دعانا صديقنا المشترك إبراهيم رزق نفسه. كان هناك، حيث كنّا جالسين، تلفزيون. جورج وإبراهيم كانا قاعدَين مقابله. كنتُ أنا قاعدًا في وجهَيهما ظهري إلى الشاشة. فجأةً، رأيتُ جورج يجهش بالبكاء. نظرتُ إلى الوراء، إلى الشاشة. كان هناك نقل مباشر لخبر عن انتفاضة كبيرة في دنيا العرب رأى فيها هو دلالةً على تجديد. لا أحد يبكي فرحًا أو حزنًا على مشهد يخصّ أناسًا "بعيدين" (لينتبه القارئ إلى المزدوجَين) إن لم يكسر قبلاً الحدود في أخوّة كبرى. هذا معروف أيضًا في نصرته لقضايا الإنسان الذي امتهن خدمته في ما كتبه لنا على مدى سنين طويلة وفي إطلالات، هنا وهناك، كان فيها أمينًا لنفسه وما اعتنقه في حياته في أناقة لافت.
ماذا أقول؟ أبقى في دموعه. كنّا أيضًا معًا، هو وصديقنا وأنا. جاء إلينا حاملاً خوفًا من صممٍ يتهدّده، وأخذ يبكي. ما الذي يُبكي في هذا الخوف؟ النظر، السمع، كلّ ما ينبض فينا يتأثّر بتقدّمنا في العمر. قال: "لا أريد أن أفقد تراتيل كنيستنا. أموت"! استدعتنا كلمته إلى بعضٍ من صمتٍ مبلَّل.
هذا كلّه يريدني أن أقول إنّ جورج ناصيف لم يكن يكتب عندما يكتب فقط. الكاتب الذي يكتب، عندما يكتب فقط، ليس بكاتب. كان جورج يكتب على ورق وعلى الناس، يكتب علينا بقلمه وبعينَيه وبفمه وبما يقوله بمدّ يده إليك للسلام والاحتضان والعضد. كان كاتبًا كبيرًا لكونه كان شريكًا كبيرًا في الألم وفي الفرح وفي الحبّ.
ذهب أخونا إلى يسوعه، إلى الكلمة الذي هو كلّ الكلمات الجديدة ونبض الكلمات الجديدة. ذهب إلى أخينا الكبير، إلى ابن الآب الذي سيمسح عن عينَيه كلّ دمعة. سيكمل من فوق احتضاننا ورعايتنا. سيضع كلمته في أذن الكلمة من أجلنا ومن أجل لبنان وفلسطين وهذا العالم العربيّ الذي يصرّ على جرحنا وطردنا. ستكون الكلمات، التي يقولها له، فاعلةً كلّيًّا. الأشواق لا تسقط في السماء. الإصرارات تعظم. إلى أن نلتقي، إن مَنَّ الله علينا بالرحمة، ستجمعنا "الكلمات"، والرجاء العظيم بوطن أفضل.
جميع الحقوق محفوظة، 2023