الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

جورج مسّوح

الأب جورج مسّوح

الأب جورج مسّوح

كنّا نتمشّى على طرقاتٍ يحكمُها برُّ الكلمة، عندما التقينا. سريعًا، جمعَتْنا قرابةٌ امتدّت إلى كلّ مَن يخصُّنا، كنسيًّا وعائليًّا. هذا اكتشافٌ لا يعرفه العالم أنّ الناس إخوة، أولاد آب واحد. لم يكن له ما يطمح إليه سوى أن يخدم كلمة الله، عن معرفة. انتسابه إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أتى هديّةً له ولها. "هذا بيت الله، هذا باب السماء". كان نارًا في البحث عن معاني الكلمة، وعن الناس الذين انوجدوا أصلاً من أجل أن يكون هذا البحث بحثهم.

الشيء، الذي بدا لي حاجة، أنّ عليه أن يضع من روحه حيث كان لي نصيب في الخدمة، قبل رسامتي كاهنًا وبعدها. الشباب، الذين التفّوا حوله، وجدوا فيه أبًا وأخًا. لم يكن الأب جورج قد تكهّن بعد. نحن في الكنيسة نعتقد أنّ الذي تُرى فيه أماراتُ الأبوّة والأخوّة هو الذي يؤتى به إلى مواقع القيادة في الجماعة. إذًا، كانت أبوّتُهُ تتجلَّى في قدراته القياديّة وانعطافه المحبّ على الآخرين ليعظموا، وأخوّتُهُ في سيره مع الناس واحدًا منهم رغم قامته الممشوقة في الشكل والمضمون.

هذا لم يتخلَّ عنه إلى اليوم الذي أودعناه فيه التراب. كان تواضعه عجيبًا.

على مدى أربعين سنة، كان جورج مسّوح معنا دائمًا لخير هذه الكنيسة وخير شبابها، كبارًا وصغارًا. أسقط مقولة أرسطو: "أيّها الأصدقاء، لا أصدقاء". ذهب جورج إلى الله صديقًا. هذه براعة يسوع في تحقيق التوالف. الصداقة لا يحقّقها لحم ودم. هذا لم يكن لأرسطو أن يستبقه. ما أقوله عن علاقة الأب جورج بأصدقائه في الجسم النهضويّ، يمكن أن يقوله كثيرون من كنيستنا ومن غيرها أو من خارجها. هناك أشخاص اكتسبوا عطيّة أن يُظهروا أنّ الصداقة، عامّةً، هي حقّ. مرّةً، اتّصل بي أحدُ الإخوة المعتبَرين في الجماعة يطلب منّي أن أكلّم الأب جورج، صديقي، في أمر. حدّثني عمّا يريده بتفصيل. جورج كان له أسلوبه في تعبيره عن مواقفه، أسلوب المصارع، بل كان، في سبيل الخير العامّ، مصارعًا في كلّ شيء. ولكنّ الحبّ أو الصداقة كانت مكانتها عنده أعلى من أيّ تعبير. هذه سمةٌ في الشهود، الشهود الحقيقيّين. هذا تراه في الذين أعطاهم الله سلطانًا "للبنيان لا للهدم" (٢كورنثوس ١٣: ١٠). الذي اتّصل بي واحد من أصدقائنا. لم أقل له: "كلّمه أنت. إنّه قريبك أيضًا". لكنّي وعدته بأن أفعل. نفّذت وعدي. كلّمته. أعطاني المتّصل أن أفهم وجهًا من وجوه الصداقة، في فلسفة جورج، سبقني إليه الآخرون، أي أنّه، أي الأب جورج، ترك لبعضٍ مكانًا خاصًّا حتّى في تعبيره عن قناعاته! الأب جورج، في حقيقته، كان "طفلاً"، ابنَ البيت، بيت الله.

عندما تقرّر أن يتخصّص في علم اللاهوت، وجّهه المطران جورج (خضر) إلى معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس، المعهد الذي درس هو نفسه فيه. ثمّ إلى المعهد البابويّ في روما، ليتابع دراسته العليا فيه. أذكرُهُ كما لو أنّه اليوم يدخل عليَّ، في الغرفة المخصّصة لي من أجل العلم في دار مطرانيّتنا، يتأبّط كتابًا بالفرنسيّة (Dieu est vivant). دخل، ورمى نفسه على كرسيّ يجاورني. "ما هذا الكتاب الذي تحمله؟"، سألته. "هذا من أجل الاستعداد لامتحان الدخول في معهد اللاهوت. أعطاني إيّاه الآن سيّدنا من مكتبته". كان المطران جورج ذا بصيرة ثاقبة. كان يعرف أنّ العلم لا يخلق وحده شخصًا منفتحًا، حواريًّا، يزرع المحبّة والحقّ أينما حلّ أو نزل. ليس صحيحًا أنّ المنغلقين والتكفيريّين لم يحصّلوا جميعهم من العلوم سوى أطرافها. لذلك، اختار جورج مسّوح اختيارًا. كان المطران جورج يرى أنّ هذا الشابّ الواعد، إن أكمل علومه، سيكون "العمل" الذي يتعاطاه، مثله، مختلفًا.

كانت أنطاكية قلب جورج مسّوح وروحه. كان في الخارج (في فرنسا ثمّ في روما) وهنا في آن. قال لي مرّةً في إحدى زياراته إلى لبنان: "ليس في الصيف فقط، بل كلّما استطعت، أريد أن أعطي هذه الأرض وجهي. لا أخاف من إغراءات الغرب. قراري واضح. لا أريد من الخارج سوى العلم، لأخدم هنا كاهنًا متواضعًا. لكنّي أخاف، إن انقطعت عن الإخوة، أن أعود إليهم أستاذًا! أريد الوجوه أن تبقى تذكّرني بأن ليس هناك في الكون كلّه أعظم من أن يبقى الإنسان أخًا". هذا حَرفيًّا هو!

ثمّ عاد. تزوّج، وتكهّن.

عاش الأب جورج حياته أخًا، أي تلميذًا، أي حبيبًا لله وللإخوة. كان هو هو من داخل ومن خارج. هوايته الوحيدة كانت أن يقرأ. "ليس عندنا وقت للتفه"، قال لي مرّةً. جوعه إلى الكلمة، الذي ابتدأ عليه، انتهى عليه. مَدَّته الكلمة إلى آفاقها الرحبة، أي إلى الحبّ. جعلته حاجةً إلى الإخوة من كبيرهم إلى صغيرهم. كان يحبّ الناس من دون أيّ تمييز، ويلبّي أيّ دعوة يرى فيها فرصةً لخدمة الكلمة وتبيان الحبّ الذي تأمر به.

رحل الأب جورج. قالوا: "سيترك فراغًا كبيرًا في كنيستنا وفي وطننا وفي هذا العالم العربيّ الذي كان (جورج) يريده أفضل". هذا صحيح. ولكنّه رحل إلى الملء (كولوسّي ١: ١٩)، إلى الكامل (١كورنثوس ١٣: ١٠)، إلى الذي قال: "في بيت أبي منازل كثيرة" (يوحنّا ١٤: ٢). هذا مسكن القدّيسين. سبقنا ليس فقط لأنّ فتوّته بقيت تضجّ فيه أكثر منّا جميعنا، بل أيضًا لأنّه أعظم في الحبّ وفي الطاعة. دائمًا التلميذ الحبيب يصل أوّلاً (يوحنّا ٢٠: ٤).

شارك!
Exit mobile version