(المطران جورج خضر إلى الطالب جورج مسّوح، رسالة خاصّة، ١٩ كانون الأوّل ١٩٩٢)
أهداني جورج مسّوح، في منتصف تسعينات القرن المنصرم، قلمًا، وقال لي أنِ اكتب. هذا تشجيع لم يأتِ من رؤيته إلى الناس وما يمكن أن يفعلوه، بل من تواضعه، بل من الله الذي يكشف للمتواضعين، الذين يحيون يحتجبون فيه، أنّه معطى، ليكون كلُّ إنسانٍ، ويكون أعظم.
من هنا أبدأ.
لا شيء في الكون أعظم من رؤيةِ إنسانٍ متواضع. قبل أن أتلمّس معنى كلمة العذراء: "لأنّه نظر إلى تواضع أمته" (لوقا ١: ٤٨)، ارتسمت في داخلي قناعة أنّ الله تغريه الإقامةُ في المتواضعين. الناس، من أجل بنيانهم بالله، لا يحتاجون فقط إلى أشخاصٍ يمطرونهم كلماتٍ حلوة، بل، أيضًا، إلى فضائل تمشي أمامهم، وتقعد إليهم. إن انفصل الإنسان، أيّ إنسان، عن فضائل الإنجيل، يحيا عمرَه عقيمًا. قال لي واحد من أصدقائنا عنه: "أيّ شيء يطلبه منّي جورج مسّوح (لم يكن قد تكهّن بعد)، إن كنتُ قادرًا على تنفيذه، أنفّذه من فوري. هل تعرف لِم؟ (وأجابني قبل أن أنبس بحرف:) جورج شابّ متواضع".
ربّما يسأل بعضكم: لِم عناني أن أستقرّ، في مطلع سطوري، في هذه الفضيلة العجيبة؟
جوابي: "التواضع هو خزانة المواهب". أعتقد أنّ هذا جواب مفهوم. ولكن، سأوضح بعدُ. في بيوتنا خزائن نضع فيها ما يسترنا ويؤنّقنا. المتواضع، مسيحيًّا، هو خزانةٌ اللهُ يضعُ مواهبَهُ فيه. جورج مسّوح، قبل أيّ شيء آخر، أي قبل علومه ومساهماته الفكريّة وأيّ إطلالة له منتجة، كان خزانةً لله. هذا أساس ما أودّ أن أقوله في هذه السطور.
منذ أن عرفته إلى اليوم الذي استدعاه الله فيه إلى سمائه، كان هو هو. في الثامنة عشرة كما في العشرين كما في الثلاثين كما في الخامسة والخمسين، لم يُضَف إليه شيء سوى علومه والكلمات التي ملأت جوفه من تبتّله إلى القراءة، ولعِهِ الأعلى. لأخبركم. صحّح فيَّ جورج أمرًا أقلقني زمانًا طويلاً. منذ أن التزمت، غازلتني قناعة أنّ الناس لا يتغيّرون. الذين شجّعوني على قبول هذه المغازلة هم الناس أنفسهم، لا سيّما الذين يعرجون بين الجانبَين، أو الذين باعوا الفضيلة بنعلَين! مرّةً، قلت للمطران جورج (خضر): "يساورني اعتقاد أنّ الناس لا يتغيّرون". قال لي: "هذا كان الأب ألكسندر (شميمن) يقوله. ولكنّي لا أوافقه"! هناك في التاريخ أبنية روحيّة تهدّمت (سقطت). ماذا تقول عن الذين يسقطون؟ أقول: سقوطهم فضيحة! الليل في الناس خيار. ولكنّ النور لا يمكن أن يكون أكذوبة! يكون النور فينا أو لا يكون! جورج مسّوح نقلني من تأرجحي إلى ما أعتبره قناعتي، اليوم. المتواضعون حقًّا هم الذين لا يتغيّرون، وحدهم! هل عندما نادى الملاكُ جبرائيلُ مريمَ: "أيّتها الممتلئة نعمة" (لوقا ١: ٢٨)، كان يتكلّم على تواضعها أو على الإله الذي اختزنته فيها؟ أعتقد أنّ كلا الأمرَين صحيح! المتواضعون ثباتهم نعمة لهم ولنا.
ذكرت شهادة أخ صديق. أحبّ أن أضيف الآن: هذه شهادة كثيرين آخرين. أيّ شخص، عرف الأب جورج (مسّوح)، يمكنه أن يعرف أنّه كان قامةً في المعرفة والحبّ. نحن الذين بمعظمنا لم ننل من العلوم بعضًا ممّا ناله، لم نره مرّةً فمًا يتكلّم أو يدَين تكتبان فقط، بل كان، في آن واحد، فمًا وأذنَين ويدَين...، أي كان حيًّا يعتقد أنّ الحيّ هو الذي يرتضي الروح أن يوجده باستمرار. كيف يصغي الكبار للذين دونهم في المعرفة وفي أشياء عديدة أخرى؟ هذا، في جورج مسّوح، جوابه واحد: لم ينسَ أنّه أخ. هناك أشخاص أقفلوا تحصيلهم المعرفيّ على ما نالوه من علم في معاهد الأرض أو من قراءة الكتب. وهناك أشخاص، إلى المعاهد والكتب، ما زالوا يقبلون الروح أن يعلّمهم من طريق الناس، إخوةً وعابرين. كتبتُ، في مكان آخر، ما قاله جورج لي شخصيًّا في لقاء جمعنا في بيت أهله في "سدّ البوشريّة" بعد أن أخذ يتابع دراسته في معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس. كان فصل الصيف. قال: "ليس في الصيف فقط، بل كلّما استطعت، أريد أن أعطي هذه الأرض وجهي. لا أخاف من إغراءات الغرب. قراري واضح. لا أريد من الخارج سوى العلم، لأخدم هنا كاهنًا متواضعًا. لكنّي أخاف، إن انقطعت عن الإخوة، أن أعود إليهم أستاذًا! أريد الوجوه أن تبقى تذكّرني بأن ليس هناك في الكون كلّه أعظم من أن يبقى الإنسان أخًا"! تصوّروا!
عندما تكهّن، اختيرتْ له لخدمته مدينة "عاليه" التي تُسمّى في لبنان "عروس المصايف" لجمالها ولجمعها ما بين المدينة والقرية. التفسير الذي أُعطي لهذا الاختيار أنّه أُسندتْ إليه رعيّةٌ صغيرةٌ من أجل أن يكون تفرّغه للتعليم والكتابة أعظم. ولكنّ هذا بعضُ الحقيقة. الحقيقة كلّها أنّ الأب جورج كان مقتنعًا أيضًا بأنّ المؤمنين جميعًا، أينما كانوا أو كان عددهم، هم شعب الله. كلّ إنسان من حقّه أن تقوده بلاغة الحياة الكنسيّة. إلى خدمته في الرعيّة، كان له عمله في جامعة البلمند. المسافة، التي تفصل بين منزله في "عاليه" ومقرّ عمله، يحتاج قطعها، ذهابًا وإيابًا، إلى نحو ثلاث ساعات، أو، إذا ذكرنا ازدحام السير على طرقات لبنان، يحتاج أحيانًا إلى أكثر. كان الأب جورج بكلمةٍ واحدةٍ قادرًا على أن ينقل خدمته إلى منطقة قريبة من تلّة البلمند. لكنّه كان يحبّ "عاليه" وأهلها جميعًا، ثمّ أن يبقى قريبًا من الإخوة الذين أصغى معهم إلى قصّة النهضة منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم، والذين رواها هو لهم.
أيّ عمل، تعاطاه الأب جورج، كان كلّ شيء عنده. الرعيّة. العائلة. الجامعة أو الجامعات. التعليم. الوعظ. الكتابة. الندوات. الإطلالات الإعلاميّة. الحوار المسيحيّ - الإسلامّي... ولكنّ الحركة، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، "المكان" الذي تربّى فيه أن يكون لله، كانت قلبه ورئتيه. تهمّني هذه المسيرة. أعرفها كلّها. رافقتها كلّها. كلّها غنيّة بأفعال باقية. هذه، إن جاز اختصارها بكُليمات، لا أرى أوفق من القول عنها: "هذه مسيرة مشاها كلَّها ينحني خطوةً خطوةً للمحبّة الأولى". ثمّ التقينا على تحرير "مجلّة النور"، التي تصدرها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. قبل أن نستعفي كلانا من تحريرها في يوم واحد (في مطلع هذه السنة)، اتّفقنا على أنّ اللغة، التي أنجبتنا، هي دَينٌ علينا. لا يأتي الإنسان، كنسيًّا، من نفسه. وضع بولس على لسان تلميذه: "أنت مدين لي بنفسك" (فيلمون ١: ١٩). هذا لسان حال الذين أنجبتهم حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. أليس هذا الوعي هو من الدوافع الكبرى التي تُبقي الحركة فتيّةً منذ أكثر من ستٍّ وسبعين سنة؟ كانت اجتماعات أسرة تحرير المجلّة لقاءً ثابتًا. لم نختلف مرّةً على شيء. تناقشنا. تباينّا. ولكنّنا لم نختلف. هذا من فنّ التربية والصداقة والوعي أنّ الآخر، صادقًا، إنّما يأتي من الله.
ثمّ الأبونا جورج كان من كُتّاب هذه المجلّة المنوَّرين (قالت لي الأخت لولو صيبعة إنّه ترك لنا فيها ستًّا وتسعين مساهمة). لن أعلّق على ما كان ينوّرنا فيه الآن أسلوبًا ومضمونًا، بل على طراوته في قبول أيّ ملاحظة يقدّمها إليه مراجعُ المجلّة. الكاتب يتعوّد نصّه. كان الأبونا، إن اتّصلتَ به لتستوضحه عن أمر أو تراجعه في آخر، يقول لك بحزمٍ لا تراجعَ فيه: "افعل ما تراه مناسبًا"! هذا أسلوب الكبار الذي يقبلون أن ينظروا إلى ما يتعاطونه بعيني إخوتهم. النصوص للناس. إذًا، للناس ما يقولونه فيه.
ليس بعيدًا من هواجس الفكر وتجسّداته، اتّصل بي يومًا (قبل نزوله الأخير في المستشفى)، وقال لي إنّ علينا أن نلتقي. لا أهتك المروءة إن قلت: لم أنم في تلك الليلة. خفت. قلقت. زاولت الدوران في سريري مُذ رميت نفسي عليه إلى الصباح. أتممت نهاري كما كان مرسومًا. ثمّ صعدت إلى منزله في الليل. دخلت. كان عنده ضيوف. لم يقوَ على الوقوف. همست به: "أقلقني اتّصالك أمس". هذا الهمس سرّع في تركنا وحدنا. بعد خروج ضيوفه، طمأنني إلى أنّ صحّته جيّدة! ولكنّه يريد أن نتحدّث عن الحركة (حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة). قاد حديثنا إلى البعد الأخلاقيّ للالتزام. الحركة عنده، بل الحياة الكنسيّة كلّها، أن يحفظَ الناسُ، في حياتهم، "صورة التعليم". نقلت جوهر ما قلناه في تلك الليلة إلى أمين عامّ الحركة. تواصل الرجلان. استكتب الأمينُ العامّ الأبَ جورج ورقةً عن هذا البعد وُزِّعت في المؤتمر الحركيّ الأخير، هي هي، من دون أن يُعدَّل فيها حرف. قال لي الأب جورج قبل هذا التوزيع: "أعتقد أنّ الورقة قاسية. قرّر إن كان عليَّ التخفيف من قسوتها". عندما قرأتها، اتّصلت به، وقلت له: "هذا رأيي في الورقة: نحتاج إليها حرفًا حرفًا. هذه تذكير بالأفضل". عبّر لي عن فرحه بما سمعه. هذا جورج مسّوح. عاش متواضعًا يأتي من الناس، لا سيّما منهم الذين تجمعه بهم محبّة واحدة.
أسرع الأب جورج في رحيله. لم يقصد أن يجرحنا. المحبوبون لهم انغراسهم فينا واستقلالهم عنّا. أعرف أن ما من استقلال كامل (عنّا) للذين أسرعوا في رحيلهم. هذا لا يعزّينا فقط، بل يظهرنا جسمًا لا يوقفه شيء عن التعاضد في المحبّة. نحن لا نعتقد أنّنا والذين رحلوا نقيم وجهًا إلى وجه، بل نقيم في الوجه، وجه يسوع الذي يضمّنا. نحن، بهذا المعنى، كنيسة أحياء. إلى أن نلتقي، إن منَّ الله علينا نحن بالرحمة، سيبقى الأب جورج يطلب أن نكون أفضل. صار تواضعه أعظم. اكتمل في احتجابه!