20يونيو

جسرُ الكلمة

            في كتاب "ذكريات من منزل الأموات"، يروي الكاتب الأرثوذكسيّ الفذّ فيدور دوستويفسكي أحداثًا مروّعةً عانى، كما هو مقبول عمومًا، رهبتها شخصيًّا في سجن "أومسك"، ونسبها إلى بطل روايته ألكسندر جوريانتشيكوف.

            لن نستعرض، هنا، ما تحويه هذه الرواية الجريئة من أخبار لخليط من السجناء، حكم عليهم بالأشغال الشاقّة، وما تكبّدوه من عقوبات جسيمة، أثّرت في نفوس قرّائها، وأبكت، وفق ما يؤكّد واضع مقدّمتها، اسكندرَ الثاني أحد قياصرة روسيا (حَكم ما بين العامين 1855 و1881). ولكنّنا سنقف عند حوار جرى بين بطل الرواية المذكور وسجين مسلم اسمه عليّ، ولد في داغستان، إحدى جمهوريّات "الاتّحاد السوفيتيّ" التي تقع على شاطئ بحر قزوين الغربيّ (يرد الحوار في الصفحات 109- 113).

            يبدأ دوستويفسكي حواره بذكره أنّ عليًّا وأخَوَيْه (المسجونَيْن معه) كانوا يحتفلون بعيدٍ من أعيادهم. وكان عليّ لا يعمل في ذلك اليوم، مسترسلاً في أحلامه، تبدو عليه أمارات الحزن. رآه ألكسندر جوريانتشيكوف على هذه الحال، وسأله، كما لو أنّه يعلم ما به، إن كان يتذكّر كيف كانوا يقيمون عيدهم في داغستان. وأخذ يصف له طبيعة بلاده. فانفعل عليّ انفعالاً شديدًا. ثمّ سأله محدّثُهُ أسئلةً عدّة، ومنها سأله عن محبّة أمّه له. فأخبره أنّها كانت تفضّله على كلّ مَن خرجوا من صُلبها، أشقّاء وشقيقات. ثمّ دخل عليّ في جوّ من الصمت المطبق، سمح لسائله بأن يذكر، في نفسه، صفات زميله الطيّب الذي كان يعينه في كلّ ما يحتاج إليه، وقدرته الخارقة على تعلّم بعض الفنون الحرفيّة (الخياطة، وترقيع الأحذية، والنجارة).

            بعد هذا، يفاجئ ألكسندر جوريانتشيكوف زميله بسؤاله: "يا عليّ، لماذا لا تتعلّم القراءة والكتابة باللغة الروسيّة؟" (ربّما أثّر فيه حزنه، ففعل). ففتنه ما سمعه، وتمنّاه علنًا. ثمّ أجابه بحسرة لا تخفى: "ولكن، مَن ذا الذي يعلّمني؟". فاقترح ألكسندر أن يساعده هو نفسُهُ على ذلك. فنهض عليّ، وضمّ يديه، "ونظر إلى محدّثه نظرة توسّل وتضرّع"، ليفعل. ثمّ استطرد الكاتب بما جرى: "وشرعنا نعمل في مساء الغد. كان عندي ترجمة روسيّة للإنجيل، وهو الكتاب الوحيد الذي لم يكن محرّمًا في السجن. فبواسطة هذا الكتاب وحده، وبدون تعلّم الألفباء، أتقن عليّ القراءة في غضون أسابيع. وما انقضت ثلاثة أشهر، حتّى كان يفهم لغة الكتابة فهمًا كاملاً، لأنّه كان يكبّ على الدراسة بحماسة قويّة ونشاط متأجّج". وتابع: "وفي ذات يوم، قرأنا معًا موعظة الجبل كاملة، فلاحظت أنّه كان يقرأ بعض الآيات بنبرة نافذة ولهجة مؤثّرة. فسألته هل أعجبه ما قرأه. فرمقني بنظرة ثاقبة، واشتعل وجهه بحمرة مفاجئة. قال: "نعم، إنّ عيسى نبيّ ينطق بلسان الله. ما أجمل هذا الكلام!". "ولكن، قل لي: ما الذي أعجبك أكثر من غيره؟". "الآية التي تقول: "اغفروا لأعدائكم. أحبّوا أعداءكم. لا تسيئوا إلى أحد قطّ". آه ما أجمل كلامه!".

            سنترك التعليق الجميل الذي جرى بعد الحوار الذي نقلناه. فهذا، على كونه يبيّن ما فعلت هذه الخدمة من خير في ذلك السجين الغريب عن دين معلّمه، يمكن أن يراجعها مَن يعنيه ذلك في قراءة الرواية. أمّا ما يهمّنا في ما تبقّى لنا من سطور، فأن نعلّق، ولو بسرعة، على بعض ما تضمّنته.

            أوّلاً، يجب أن تستوقفنا إنسانيّة هذين السجينين معًا. شخصان، لا تعطف أحدهما على الآخر أيّ قرابة إن في اللحم والدم أو في الدين، تجمعهما عاطفةُ صداقةٍ تكوّنت في ظلّ سجن من السجون التي تعوّد الكثيرون منّا أن يسلخوا عن سكّانها أيَّ عاطفةٍ، عاطفةُ شراكةٍ لا سيّما في الحزن الذي كان يعمّر إنسانًا يعيّد بعيدًا من أهله ووطنه. وهذا، أمرًا لافتًا خيرُهُ فعلاً، يجب أن يجعلنا نعيد التفكير في الحكم على الناس اعتباطًا، وأن يعلّمنا أن نركن إلى أوجاعهم، لنسعى إلى مداواتها. ويبدو الخير، جليًّا، في هذه القربى التي جعلت ألكسندر جوريانتشيكوف يشبه "السامريّ الشفوق" الذي حدّثنا عنه الربّ في أمثاله (لوقا 10: 25- 37). صحّ أنّ عليًّا لم يكن ملقى على الطريق بين حيّ وميّت. ولكن، صحّ، أيضًا، أنّه كان محتاجًا إلى معونة أخرى. كان محتاجًا إلى مَن يعزّيه في حزنه. وهذه المعونة سدّها له رجل صوّره دوستويفسكي كما لو أنّه موجود، ليكون كلّ مَن يعاشرهم أفضل ممّا هم عليه. وليس باعتقادي من قيمة لإنسان لا يأتي من هذا الخُلق المدهش. ويبدو الخير، بجلاء لا يفوقه جلاء، في هذا الاحترام الشديد الذي جعل رجلاً أرثوذكسيًّا يُتكئ آخر مسلمًا على كلمة الله المؤثّرة من دون أن يغتصب عقله. كلّ ما فعله أنّه علّم "تلميذه" في كتابٍ جَزَمَ مؤلّفُ الرواية أنّه لم يكن مسموحًا بأن يدخل غيره في ذلك السجن. الظروف، إذًا، هي ما دفعت عليًّا إلى أن يتعرّف إلى ما قاله "عيسى النبيّ" الذي "ينطق بلسان الله". ليس في الرواية من إشارة إلى أنّ ذاك "التلميذ" قد تبع صاحب عظة الجبل. كلّ ما هو ظاهر أنّه ذاب في جمال كلماته المؤدّبة التي تعلّمها في قراءةِ كتابٍ كثيرون من شعب المسيح يضعونه زينةً في مكتباتهم، هذا إن كانوا قد اقتنوه فعلاً!

            من عادة فيدور دوستويفسكي أن يمرّر أقوالاً للربّ في رواياته جملةً. هذه الأقوال، التي مرّرت، اعتبرها بعضٌ أنّها كانت زادًا للمؤمنين الروس أعانهم على معرفة الحقّ في أزمنة الحكم الشيوعيّ الذي منع، ممّا منع، نشر الكتب المقدّسة. ونحن، كقرّاء، في هذه الأزمنة التي بات الرخص عنوانًا بارزًا من عناوين معظم فنونها، ليس لنا سوى أن ننحني إجلالاً أمام كاتب استطاع أن يجعل من فنّ الرواية جسرًا يحمل كلمة الربّ إلى كلّ مَن يسكره جمالها.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content